رواية و كتاب: الوجود والعدم في جدارية محمود درويش

الخميس، 18 ديسمبر 2014

الوجود والعدم في جدارية محمود درويش






تـتـفسح الأبدية البيضاء على حافة العدم، لتفارق شرط الوجود المجمَّد في جليد الحواس، ولتكثف انثيالات أفلتت من برزخ الزمن المهجور، بمرايا صقلت درويش في ينابيع البراءة الأولى، لتنكشف حجب البصيرة في أفق بعيد، حيث يتحد (ضِّـداه في المعنى)، وحيث يفرغه(الهباء من الإشارة والعبارة). ومن ثم تفيض حقائق الأشياء دون مجازها.
وينفذ درويش من جدار العدم، لا ليشرح (ما يقول الله للإنسان)؛ بل ليستعيد بكل ما أوتي من قوة: (لغةً تجاور كوكباً أعلى). ومن خلال هذه اللغة الأولى تنهمر الرؤيا ويتكثف الوجود بملامح تشد الحلم والحقيقة إلى تناسخ طليق مشدود بمأزق إنساني تتفجر منه الأضداد وتتوحد في أفق الرؤيا. لذلك كانت الأبدية البيضاء مجاز الرؤيا إلى كينونة الوجود. وهو وجود مغاير لحياة الموتى التي عاشها درويش قبل دخول الأبدية؛ تلك الحياة التي يقصر فيها الوعي عن الحضور، ويلتبس فيها الواحد والمتعدد في البحث عن الذات والآخر. كأن ضبابها أفضى به إلى الوجود الذي يراه، ولا يراه غيره.

(ولا يكفي الكتاب لكي أقول وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب
وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين
وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة
هل أنا الفرد ُ الحُـشود)

ويجسر التناسخُ الوجودَ الذي يتمدد عبر الأزمنة لتتحول الذات روحاً تفتح أفق الرؤيا على المأساة، وتعيد أصل المعنى إلى ينابيعه الأولى؛ فالتناسخ هو شرط الرؤيا الذي به يتجسد الشعر في الزمن الدرويشي، وتتحول فيه الذات عبر الأمكنة:

(في الجرة المكسورة انتحبت نساء الساحل السوري من
طول المسافة واحترقن بشمس آب
رأيتهن على طريق النبع قبل ولادتي
وسمعت صوت الماء في الفخـَّار يبكيهن:
عدن إلى السحابة يرجع الزمن الرغيد)

ويكشف تأويل الرؤيا من وراء الواقع الكثيف يقينٌ متوتر يشف زجاجه عن الذات المتوحدة مع حقيقتها، وغربة الأنا بين حشود الزيف؛ تلك الغربة التي تعاين الشهود كلما اخترقت العدم إلى وجودها الحق بين حافتي الأزل والأبد؛ لتنبعث مرة أخرى من الرماد كطائر الفينيق. كأن هول المأساة يحترق منذ الأزل لتتماهى صورة الأرض مع حديقة الفردوس العليا، وليعيد محمود درويش من (آدم) نسخته الأولى في بدء التكوين الذي يفجع اللذة بالحرمان، والحضور بالغياب:

(سأصير يوماً ما أريد
سأصير يوماً طائراً وأسل من عدمي وجودي
أنا حوار الحالمين عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل
رحلتي الأولى إلى المعنى فأحرقني وغاب
أنا الغيابُ أنا السماوي الطريد).

وتهدر هذه الصيرورة إلى يقينها الأبدي رغم كثافة الواقع التي تحجب الوجود. لكن هذا الواقع لا ينعكس إلا سرابا يترقرق وراءه ماءُ الحقيقة الذي يراه الشاعر الكبير، فيحس عند ذلك بالوحدة والغربة والبعد، فما زالت الرؤيا بعيدة عن الآخرين:

(لم يبلغ الحكماء غربتهم
كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم).

ولذلك لا يتكلم درويش خلال النص إلا بضمير الأنا وصوته الفرد الذي يوشك أن يكون همساً، ربما للمفارقة بين ما يراه هو، وما لا يراه الآخرون، بين صوت القلب، والنشيد الملحمي، أي بين همس الغناء، وقعقعة السلاح. ومن هنا ربما كان الحزن أيضاً رديفاً للغربة والوحدة والبعد حين يتأمل الشاعر الكبير مصيره الذي ينكشف يقيناً تحت قدميه، فيما هو وراء الأفق البعيد البعيد:

(سأصير يوماً شاعراً والماء رهن بصيرتي/
لغتي مجازٌ للمجاز فلا أقول ولا أشير /
أنا من هناك “هـُـنـَا” يَ يقفز من خطاي إلى مخـَّيلتي
أنا من كنت أو سأكون يصنعني ويصرعني الفضاء ُ اللانهائي المديد).

ودرويش يوتر المعنى موغلاً في تداعيات يعيد تشكيلها بغنائية تقطع الأنفاس في موج الكلمات التي تخنق القارئ في إبحاره مع النص. فهي تسريعٌ يتصادى من تقنية المجاورة بين المترادفات، وتكرار الجُمل، أي أن السرعة هنا تسبق حصان الموت الذي يطارد درويش دون أن يدركه:

(ويا موت انتظر يا موت حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع “…. ”
وأنا أريد أريد أن أحيا فلي عمل على جغرافيا البركان
من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما واليباب هو اليباب).

فالتكرار والمجاورة في الكلمات لا يستدعيان حشواً، بل توتيراً موازياً للمعنى يستدعي بدوره غريزة البقاء. فمطلق الوجود، فضلاً عن الوجود المطلق، في هذا النص هو غاية قصوى لدفاع الشاعر عن الحياة، قبل الدخول في (باب القيامة). وكما أن الأبدية البيضاء هي مجاز المكان في الرؤيا، في اللازمان ولا مكان، كما أسلفنا؛ كذلك الرؤيا هي تقنية النص الكاملة. ذلك أن الرؤيا/الحلم ربما كانت هي الفضاء الوحيد للحكاية عن الوجود والعدم، دون أن تكون في ذاتها وجوداً ولا عدماً.
وضفاف الموت في الرؤيا هي أصفى حالات المكاشفة والصراحة التي يعوقها أحياناً شرط الوجود المادي، وحضور الوعي في الذات. ليتحرر الشاعر من وثاق الزمن والتأويل والآخر، فيما يشبه هذيان العقل الباطن.
وكما تتحرر الذات في ضفاف الموت، تستدعي الذاكرة أجمل ما في اللغة الأعلى. ولعل هذا هو سر تضمين بعض النصوص القديمة للشاعر في (الجدارية) كوصايا محررة من اختياراته (كما صرح درويش بذلك في إحدى حواراته مع بعض النقاد). وتأتي الإشارة لنفي الحلم في مفتتح النص كخداع سردي، ضمن لعبة النفي والإثبات والواحد والمتعدد. لأن التشكيك والتبديل المفتوح في تكسير علاقات المعنى والأشياء هو أصل الرؤيا في النص.

(ولم أحلم بأني كنت أحلم / كل شيء واقعيٌ
كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانباً….
وكأنني قد مت قبل الآن / أعرف هذه الرؤيا
وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف).

وضمن هذا التشكيك والتبديل، تشكل الفنتازيا بعض لوحات الجدارية داخل تقنية الرؤيا، أي تكسير علاقات الزمن والوجود.

(أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء
وكل شيء أبيض / البحر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء).

ذلك أن البياض الذي يغرق فيه درويش في الفضاء اللانهائي بين الوجود والعدم منذ البداية، هو الذي يمنحه خامة البراءة الأولى ليصّفي لغته الشعرية.
لكن هذه الفنتازيا التي توهم باقتلاع سوريالي للذاكرة والمكان، ويحيل فضاؤها إلى خارج المعنى الذي يحايث كينونة اللغة في تعبير الشاعر عن مأساته، لا تنطوي على محو للذاكرة، بل الذاكرة هنا تستعيد وجودها مع الكلام / اللغة من داخل ذلك الفضاء البعيد. هذه اللغة التي تجد تعبيرها في المأساة والحق الأعزل. حيث يضعنا محمود درويش أمام مفارقة عميقة عندما يتذكر لعنته فجأةً من ضفاف البياض والنسيان.

(سأصير يوما ً فكرة / لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب ولا كتاب
كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبة ٍ
لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد).

واليقين إذ ينحو إلى كينونة في الزمن / المستقبل، ينطوي في التعبير على لغة شفيفة توازي ذلك الحرمان الإنساني في الحاضر، وتشيع روحية مكتفية بالعزلة على هامشه، حيث التناسخ في مفرداتها داخل النص هو معنى البقاء، بعيداً عن الآن / الحاضر المحذوف، فالمكان هو اللغة، والوطن هو القصيدة.
وعلى الرغم من هذا اليقين الذي سيصير إليه الشاعر يوماً ما، تسترق اللغة الشعرية حنينها للمكان على هامش الحاضر بأسى يدس الحرمان في جمال الوصف، ليخلق الشاعر معناه من أعماق هاويته التي تعبر عن حرمانه في نشيد إنساني يورث أغاني الخلود لمن يأتون في زمن جديد. كأن اليقين في الرؤيا يتجدد في تناسخ جدلي مع أسطورة الأرض.

(خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية
وأورثها لمن يتساءلون لمن نغـِّـني؟
خضراء أكتبها على نثر السنابل…
كلما آخيت سنبلةً تعلمت البقاء من الفناء وضده
أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضرَّ ثانيةً
وفي موتي حياة).

ودرويش ينسخ الرؤيا في زمانه الخاص، ويستعير وجوده من اللغة، عبر الفنتازيا وتبديل المجاز في الحسي والمعنوي، وينحو إلى تجديد عبارات بعينها على مدار النص. أي أن الشاعر يشتغل في هذا النص على تدوير الجمل، وتكرار الألفاظ في كل مفصل حواري مع الموت ليستكمل حياته الناقصة بالامتلاء. فحاجته إلى الامتلاء الوجودي تعادل استعادته للغة التي لا تبشر بالملاحم والسلاح، بل تشتاق إلى يوميات الجسد ووظائفه الطينية. فهو يريد أن يحيا وأن يحلم، وأن يتأمل. فتحقق الوجود اليومي بالنسبة له هو مقاومة للموت، وضد النسيان.
وكما تعادل اللغة الوجود؛ تعادل الذاكرة الحق المعرض للنسيان. ثمة حق هناك في (شهادة الميلاد للصفصاف في حجر خريفي) وفي (العشب بين مفاتن الأنقاض).
يريد درويش العودة من ذلك البياض إلى كل ما ذكرناه آنفاً ولذلك يقول:

(فيا قلب يا قلب أرجع خطاي إليَّ لأمشي إلى دورة الماء وحدي
نسيت ذراعيَّ، ساقيَّ، والركبتين….
نسيت وظيفة عضوي الصغير
نسيت التنفس من رئتي َّ نسيت الكلام
أخاف على لغتي فاتركوا كل شيء على حاله
وأعيدوا الحياة إلى لغتي).

فاللغة التي هي علة الذاكرة والوجود، هي أيضاً مجاز الوطن المحذوف من الحاضر:

(لا أريد الرجوع إلى بلد بعد هذا الغياب الطويل….
أريد الرجوع، فقط، إلى لغتي في أقاصي الهديل).

وعلى الرغم من أن معجم محمود درويش يختبر الألفاظ بعناية، ويعيد تركيبها في عبارات تختزن مأساته، وتجرب احتمال معناها ضمن رؤية حاكمة للحرمان، إلا أن درويش استطاع في هذا النص أن يضخ حرمانه في سياق يمس المعنى الإنساني بأشد الصيغ خصوصية في تشفير ذلك الحرمان وتأويله:

(أطير وليس لي فلك أخير).
……………………….
(بحارة حولي ولا ميناء)

على هذا النحو يندمج سياق التأويل عند درويش مع مأساته في التيمة الإنسانية الكبرى، ويستصحب هذا التأويل في الموت والحياة كذلك. فهو حين يتذكر (لعنته) في ضفاف الأبدية ويستعيدها ليتحصن ضد الثنائيات التي لا تعرف احتمالاً؛ يختبر تأويل رؤيته ويلوذ بالمعاني بعيداً عن الثنائيات. ذلك أن تجريد الأشياء والأحداث عن صورها كما هي في العالم، وتأويلها ضمن مجاز في الرؤيا الإنسانية، ينزع عنها حمولات الذاكرة، ويدخلها في تكوين البياض والرؤيا لتتحول إلى دراما آسرة قائمة على التشكيك والاحتمال والمجاز:

(تنحلُّ الضمائر كلها “هو”، في “أنا”، في “أنت”….
وتنحل العناصر والمشاعر / لا أرى جسدي هناك ولا أحسُّ بعنفوان الموت
أو بحياتي الأولى / كأني لست منـِّي. من أنا
أأنا الفقيدُ أم الوليد).

فالشاعر يتساءل في النص ولادة مشككة بحياة أخرى مفقودة، لكنه في كلا الحالتين لا يريد هذا الشعور من انعدام الوزن. فهو يريد أن يولد مرةً أخرى لا كما جاء من الأزل في المرة الأولى، ولكن كما يريد أن يكون في المستقبل. بينما ولادة الحاضر هي ولادة اللغة التي تحقق وجوده الراهن بوجودها قبالة الصمت/الموت:

(لم أولد لأعرف أنني سأموت….
كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي / كأني حاضرٌ أبداً
كأني طائرٌ أبداً / كأني مذ عرفتك أدمنت لغتي هشاشتها
على عرباتك البيضاء).

ذلك حين يتماهى الصمتُ مع الموت تأتي اللغة لتعيد الحياة. فمعنى اللغة هنا (يظفر بوجوده المادي) بحسب (ميخائيل باختين).
إنه رهان الوجود في مرايا العدم؛ حيث يقين اللغة / الوجود في المستقبل.
ذلك المستقبل الذي يحالف الماضي في الزمن الدرويشي، لا يأتي من قوة السلاح الذي يوسع الكلمات للموتى، أو الجيوش التي تنشئ ممالك النسيان. لذلك تأتي خسارة الأرض من أثر النشيد الملحمي:

(الأرض عيد الخاسرين “ونحن منهم” نحن من أثر النشيد الملحمي
على المكان كريشة النسر العجوز خيامنا في الريح).

إن بقاء المكان تحت مفاتن الأنقاض أهم من السلاح والجيوش. إن البقاء هنا هو صيرورة الوجود المتناسخ إلى الأبد، رغم الخسارة.

(لم يمت أحد تماماً تلك أرواحٌ تغير شكلها ومقامها).

والشاعر هنا راءٍ مشغول بشواهد المكان بين الماضي والمستقبل بحسب رؤياه للوجود التي لا يكاد يراها أحد في الراهن. فمحمود درويش هنا يغني أناشيد الظل والمجاز ليستمع بالكاد إلى همس ما يقول، وليس نبياً يبشر بالقيامة.

(مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي
ولا أبشر بالقيامة.
لم أغير غير إيقاعي لأسمع نبض قلبي واضحاً…..
ها هنا كنا وكانت نخلتان. فالمنظر البحري والسور المدافع عن خسارتنا
يقول ما زلنا هنا حتى لو انفصل الزمان عن المكان).

على مدار النص يتأمل درويش مأزقه الوجودي في ضفاف الأبدية بتأويل يستند للغة والماضي والمستقبل، ويواجه الموت محتفلاً بمطلق الحياة، في حميميات إنسانية صغيرة كسلاح في وجه الموت، على الرغم من الرهبة التي تفضح خوفه من العدم.

(ولم تلد ولداً يجيئك ضارعاً: أبتي أحبك، وحدك المنفيّ يا ملك الملوك
ولا مديح لصولجانك….
هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مسلة المصريِّ، مقبرة الفراعنة النقوش على حجارة معبد ٍ
هزمتك وانتصرت وأفْلَتَ من كمائنك الخلود).

تلك الأغاني التي هزمت الموت في آثار الأوائل، هي نفسها أصداء الأناشيد التي يرددها(الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في خصوبتها) والتي تنسخ الوجود من العدم، وتطعن السيف بوردة؛ لذلك يحاصرها الغاصب والسَّجان خلف أسوار المدن القديمة حتى لا تنفذ إليها.
ربما أفلت درويش من الأبدية ليسترجع هامش الوجود في حياة تنسخ إيقاعها بلغة الحق الأعزل وتنهض بكاملها في مقاومة المحو والعدم دون ضجيج. وبنشيد ينفذ هسيسه إلى الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد)؛ نشيد يحاصر به عدواً يريد أن يحيا على (إيقاع أمريكا وحائط أورشليم).
إنه النشيد الذي يربك آلة الفناء. فالموت الذي خاض درويش ضفافه، أحس فيه معنى ما، من معاني حياته الماضية (وكأنني قد مت قبل الآن أعرف هذه الرؤيا).
وقبالة الموت يوازي درويش، موت الحياة المجازية التي عاشها سابقاً، فهو وحده أحس بالغربة والوحدة والبعد (وهي مفردات مكثفة في النص بتصاريف عدَّة).
أحس درويش بكل ذلك، لا ليعبر عن يأسه، ولكن ليعبر عن الرؤيا التي تحكم وجوده بين الماضي والمستقبل. فالحاضر الذي يمتحن وجوده، يكسر نشيد النأي الأزلي بالثنائيات المدمرة. لذلك يرسم درويش، على مدار النص، زمانه الأبيض ووجوده الحق عند حافتي الأزل والأبد، في المطلق، أو الماضي والمستقبل في التاريخ؛ ليهرب من ثنائيات الزمن الراهن وأضداده، أي ليحقق الرؤيا في الوجود الذي يراه لوحده من بعيد، فمدار الزمن في النص ينوس بين الماضي والمستقبل.

(جئت قبل وجئت بعد) أو ( كنت أو سأكون)
(خذ غدي عني وهات الأمس)
(لا أحد هنالك في انتظاري جئت قبل وجئت بعد /
فلم أجد أحداً يصدق ما أرى
أنا من رأى وأنا البعيد أنا البعيد).

هكذا رأى درويش ما وراء المنظور لينفذ من التاريخ إلى المطلق، ومن الحاضر إلى المستقبل، ومن الواقع إلى الحقيقة؛ رأى كل ذلك بلغته التي ستبقى شاهداً على وجوده الحقيقي:

(وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي…
الواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد).

وإذ يتردد الزمن الدرويشي في الجدارية بين الماضي والمستقبل على ذلك النحو من الاستعادة والتدوير والتحقق؛ فهو أيضاً الشاهد الوحيد على ما يراه الشاعر دون الآخرين. فعندما ذكر درويش زمنه الراهن قال (الوقت صفر)، (الزمن المدور) بينما يتجدد الماضي بحسبانه رؤيا مستقبلية إزاء الوجود الحق. فالماضي هو المستقبل والعكس صحيح في زمن الجدارية أو الزمن الدرويشي.
ولهذا يتجه درويش للماضي بنوستالجيا تعكس وجوده في المستقبل الكبير ليقينه بذلك. وينعي درويش من يندبون الماضي في محنة الحاضر، ليتأمل ما هو أجدر من البكاء على الماضي، أي ليتأمل حقيقته في الماضي كما هي في المستقبل أيضاًً:

(تركت الباب مفتوحاً لأندلس الغنائيين /
واخترت الوقوف على سياج اللوز والرمان /
أنفض عن عباءة جديَ العالي خيوط العنكبوت /
وكان جيش أجنبي يعبر الطرق القديمة ذاتها /
ويقيس أبعاد الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها).

فحين يقيس العدو زمانه بالسلاح، لا بد أن يكون وجوده عابراً في نقطة ما، في (الوقت الصفر) بين الماضي والمستقبل، ما دام يحمي ذلك الزمن بآلة الحرب. ذلك أن النص هنا يماهي بين العدو والموت تماماً. يستطيع الموت أن يقضي على الفرد، ولكن لا يستطيع أن يقضي على شعب يتسلسل في الوجود إلى يوم القيامة. كما لو كان الموت الذي هزمته الفنون هو نفس العدو الذي يخاطبه درويش:

(قلت للسجان عند الشاطئ الغربي
ــ هل أنت ابن سجاني القديم؟
ــ نعم
ــ فأين أبوك
قال أبي توفي من سنين /
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة
ثم أورثني مهمته ومهنته /
وأوصاني بأن أحمي المدينة من نشيدك).

وحين تكون القصيدة وطناً يعجز السجان عن حماية الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد) من النشيد. ولو جرب آلة الفناء، و لو قتل المُغنـِّي، لأن ذلك ليس من اختصاصه تماماً. يقول درويش مخاطباً الموت/ العدو:

(ألديك وقت لاختبار قصيدتي/ لا ليس هذا الشأن شأنك
أنت مسؤولٌ عن الطيني في البشري /
لا عن قوله أو فعله).

بهذه الرؤية يؤكد درويش يقينه الوجودي في أمسه كما في غده، فهذا اليقين هو الذي يحرِّرُه من الراهن، أي من الزمن المدور إلى الماضي والمستقبل أو العكس.

(قد يكون “الآن” أبعد / قد يكون الأمس أقرب/ والغد الماضي
ولكني أشـَّـدُ “الآن” من يده ليعبر قربي التاريخ /
لا الزمن المدور مثل فوضى الماعز الجبلي).

فهذا الحاضر الراهن، إنما هو عارض، وليس للشاعر منه شيء.
أما الذي له فهو الماضي والمستقبل:

(ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي غديَ البعيدُ،
وعودة الروح الشريدِ
كأنَّ شيئاً لم يــَكنُ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيفٌ في ذراع الحاضر العبثي….
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أبطاله….
يلقي عليهم نظرةٌ ويمرُ….)

ورغم هذا الامتلاء بيقين الماضي والمستقبل في زمن درويش، إلا أن درويش حذف نفسه أيضاً في نهاية النص من الحاضر العبثي حين ختم الجدارية:
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
لي.
أَما أَنا – وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي …

إنه امتلاك المجاز واليقين في عين الوقت الذي ينوس بين الماضي والمستقبل (لي أمسي ولي غدي البعيد).
وإذ ينفي درويش تحقق الكينونة في الحاضر العبثي بنفيه امتلاك ذاته المتحققة فإن ذلك يستدعي بالضرورة الرحيل في الوجود والإقامة في الغياب؛ إذ الامتلاء بأسباب الرحيل هو عين العدم في عين الوجود. إن درويش هنا يختبر علاقة مركبة للمجاز والطبيعة والذات بطريقة لا تخلو من دلاله مزدوجة، ولكنها في الوقت نفسه تضعنا باستمرار أمام سؤال المعنى حيال تلك الحال الفريدة التي يكتب درويش من خلالها الشعر. فدرويش الذي قال (وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديَّتي) ربما كان ـ إلى جانب المتنبي ـ أحد شاعرين في العربية امتلكا القدرة على تحويل اللغة إلى طاقة لامعة في الكلمات، وهي قدرة عبقرية تمنح الشعر انزياحاً حراً متجاوزاً لموضوعاته ومندمجاً في الحياة بوصفها فضاءً شعرياً يخترق الخاص والعام والذاتي والموضوعي والتجريد والتجسيد؛ فتغيب الأغراض ويبقى الشعر ساطعاً يمسُّ الكلمات والأشياء فيحوِّلها إلى كائنات شعرية منفكة عن حيثياتها في اللغة والعالم. وإزاء قدرة تعبيرية نادرة كهذه لا تنفك قيمة المعنى عن الإبداع. ذلك أن درويش الذي كتب هذا النص بمجاز قارب التخوم الصافية للشعر، وبهذه الفرادة الشعرية التي جعلت من مأساته جرحاً للضمير الإنساني في العالم، كان لا بدَّ أن يستفز تناقضاته القصوى ليعبر عن موقعه المتحقق في الماضي والمستقبل والمحذوف من الحاضر في سياق المعنى المتصل بسؤال الحقيقة والإبداع حيال هوية الأنا. فهو هنا في هذا النص لا يكتب مجازاً محضاً، ولا يحذف المعنى، بل يجد نفسه كينونة منشطرة بضغط التاريخ؛ كينونة ينعكس عليها الزمان منفكَّاً عن سياقه المنسجم مع تلك الأنا في الماضي والمستقبل، ليصدمها بفجوة الحاضر العبثي؛ حاضر الاحتلال والاقتلاع. وتعبيراً عن هذه الحالة يتمثل درويش مأزقه الوجودي كشاعر كبير معني بالإفصاح عن هويته المتصلة بوجوده في التاريخ؛ تلك الهوية التي لا وجود لها في الواقع؛ إذ أن وجودها في هذا الحاضر هو الوجه الآخر للعدم. إنها جدلية الوجود والعدم التي حين تنعكس على الوجود تحذف الذات منه فلا تبقي إلا طيفاً متناسخاً في سماء المكان لأن وجودها موجود بالقوة وغائب بالفعل.
إن النفي المكرر في اللازمة: (أنا لست لي) يأتي تفسيراً لتلك الغربة والوحدة والبعد عن الزمن الحاضر في النص. ولهذا حين قال درويش:
(واسمي – وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت – لي)
كان يشير إلى خطأ المكان بوصفه انعكاساً للعدم الذي سيأتي منه على التابوت؛ فهو مكان ليس مكانه؛ إذ لا يقع فيه درويش على نفسه الغريبة؛ فالمكان هنا انعكاس للخطيئة (المكان خطيئتي) لذلك ينعكس خطأ المكان خطأً في نطق الاسم لتجديد المعنى في دلالته المتصلة بالغربة والوحدة والبعد، في الحاضر، وحتى بعد الموت.


محمد جميل أحمد
* شاعر وناقد من السودان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق