رواية و كتاب: ديسمبر 2014

الخميس، 18 ديسمبر 2014

في رواية كريستيان سيغنول الجديدة (حياة من الضوء والريح) ..عندما تصبح الحرب فسحة للأمل



ترجمة: عدوية الهلالي


في رواية كريستيان سيغنول الجديدة، يقتفي الكاتب الفرنسي آثار بطله جان دولين منذ ان تركته والدته طفلا رضيعا في حقل مهجور وعثر عليه مزارعان فقاما بتبنيه وتربيته بطريقة خشنة وفظة لدرجة انه يجد في اندلاع الحرب العالمية الثانية منفذا للأمل بالخلاص.
تمثل حياة الطفل اللقيط جان سلسلة من المصائب فبعد ان هجرته والدته وعثر عليه المزارعون في يوم القديس جان واطلقوا عليه اسمه ، قاموا بايوائه ولم يعاملونه كطفل ابدا بل كواحد من حيواناتهم فهم يرفضون ارساله الى المدرسة لأنهم يجهلون القراءة والكتابة ولايريدون ان يكون ابنهما المتبنى افضل منهما كما ان عليه ان يكسب لقمة عيشه، حسب قوانينهم.
تؤثر هذه الاحداث في حالة جان النفسية فيشعر بأنه مدمر تماما بسبب الخوف والعزلة ...ويصف الكاتب سيغنول شخصية وظروف بطله جان بهذه الكلمات فيقول : " في عالم من الرياح ..في عالم من الصخور ..وعالم من الأسرار ...هنا نشأ جان دولين وهو يتطلع الى أمل بالخلاص مهما كان ضئيلا ..لم يكن يعرف بأن هناك حياة في اماكن اخرى خارج الحقل الذي يعيش فيه وبأن هذه الحياة ربما تكون جميلة جدا، لطيفة ومليئة بالابتسامات ومختلفة جدا عن تلك الحياة التي يعيشها مع أولئك المزارعين.. كان يحلم بشيء بسيط جدا ..مداعبة من يد حانية ..ابتسامة من وجه محب.. كلمات لطيفة تشفيه ونظرة تبعث فيه الاطمئنان".
عندما بلغ جان الحادية والعشرين من عمره وجد في اندلاع الحرب العالمية الثانية فرصة للخلاص وبالفعل فقد سمحت الخدمة العسكرية له بتعلم القراءة والكتابة ثم التقى خلالها بـ(فابر) الذي لم يكن معلما له فحسب بل منارا اضاء له حياته كما التقى جان بآخرين منحوه لحظات رائعة لكن مخاوفه الطفولية لم تفارقه وظل يخشى دائما ان يعثر عليه أحد ما ويعيده الى الحقل الذي تربى فيه.
يمكن اعتبار رواية سيغنول الجديدة اكثر قتامة وكآبة من سابقاتها لكن هذا لايعني عدم وجود بصيص أمل، فهذه الرواية هي من أفضل نصوصه لأن هناك منابع للحيوية والدفء في قصة جان مع كثافة في المشاعر كما ان الكتاب يستحضر الطفولة او بالأحرى عبء السنوات الأولى.
ويستذكر سيغنول قول فيرات "لا احد يشفى من طفولته" وقول جيم هاريسون "ما هو القدر ان لم يكن ثقل الطفولة".. وتتحدث روايات سيغنول لكل العالم كما تمتلك قوة الاقناع ونبل التواضع وتترك أصداءها لزمن طويل.. تحمل روايته الجديدة عنوان (حياة من الضوء والريح) وقد صدرت مؤخرا عن دار البان ميشيل للنشر بـ(248) صفحة.
ولد الكاتب كريستيان سيغنول في قرية على سفح كوس وعاش حياة سعيدة بين والديه وجديه وحين التحق بمدرسة قريته التهم كتب مكتبتها واستمتع بالمناطق الريفية المحيطة بقريته، وكانت اسعد لحظات طفولته تلك التي يمضيها وقت الحصاد وموسم قطاف العنب وجمع الفطر وحفلات الصيد في الصيف ..
وفي الحادية عشرة من عمره، التحق بالقسم الداخلي التابع لثانوية بريف وعاش مأساة ابتعاده عن وطنه الأم ..يقول سيغنول "هذا التمزق هو الذي جعل مني كاتبا"، وبعد دراسته للآداب والقانون بدأ حياته العملية كمدير للتحرير في رئاسة بلدية بريف.. وفي عام 1984، بدأ الكتابة ونشر له روبير لافون روايته الاولى ( الحصى الازرق) المستوحاة من طفولته فحقق نجاحا كبيرا واعقبتها روايات ( النعناع البري ) و(طريق النجوم) و(اشجار اللوز تزهر حمراء) بين عامي 1990 و1993 ، اما روايته (نهر الأمل ) فقد جعلت منه واحدا من اكثر الكتاب المقروءة كتبهم على نطاق واسع في فرنسا ، كما تم اقتباس روايته ( بحارة من دورون ) لتصبح واحدة من اشهر المسلسلات في التلفزيون ، وبيع منها اكثر من مليوني نسخة في العشر سنوات الاخيرة ..ومنذ ذلك الحين تتوالى روايات سيغنول التي تحوي ذكريات وملاحم تاريخية عظيمة..

الْعَودة إلى سنَّار… الشّعـرُ قِنَاعًا للْهُويَّة




إلى أيّ مدًى يمكن للشعر أن يكَوِّن معرفة جمالية بهُويّة ما، دون أن يقع في تلك المقاربة المشكّكة بقدرته على إنتاج المعرفة، لا مجرد التعبير عنها فحسب؟ ففضلا عن إشكالات الفكر وذهنيته المتصلة بإعاقة انسيابية الشعر ولطافته؛ تبدو المعرفة في وجه آخر طاقة لا يطيقها الشعر؛ لا سيما تلك المعرفة التي تنحو إلى التعبير عن مفاهيم ميتافيزيقية.
إزاء التباس كهذا في الكتابة الشعرية كانت هناك اختراقات نادرة لشعراء مشرقين، ملكوا القدرة على صياغة تعبير شعري قارب إدراكا ما للمعرفة في بنية شعرية شفافة وعميقة في الوقت ذاته.
ربما كان الشاعر السوداني الراحل محمد عبد الحي (1944 ــ 1989) أحد الشعراء الذين صاغوا معرفة جمالية للهوية من خلال مجموعته الشعرية (العودة إلى سنار)، فهذه المجموعة التي تتكون من خمسة أناشيد طويلة (البحر، المدينة، الليل، الحلم، الصبح) كانت ولا تزال أهم كتابة شعرية سودانية؛ حاولت الكشف عن الهُويّة بحسبانها معرفة مخبوءة في التاريخ، وقابلة للتجلي في الشعر.
لقد كانت هذه التجربة الطويلة للشاعر محمد عبد الحي مع قصيدة (العودة إلى سنار) عملا مرهقًا وشاقًّا؛ حتى وصفه الشاعر ذات مرة بـ(اللّعنة) إذ ظل يكتب هذه القصيدة شطرًا طويلا من حياته.
ومنذ أن بدأ بكتابتها وهو في السابعة عشرة من عمره؛ كان عبد الحي يختبر التجليات الأصفى للشعر في مقاربة الهوية. ولأن ذلك يفضي إلى صيرورة لا متناهية من عمليات الخلق الشعري؛ فقد كانت (العودة إلى سنار) إلى حين صدورها في الطبعة الثالثة في العام 2010 التي نحن بصدد الحديث عنها، أي بعد رحيل الشاعر بأكثر من واحدٍ وعشرين عامًا؛ تبدو كما لو أنها التحرير ما قبل الأخير.
في هذه القصيدة كان عبد الحي يبحث عن هُويّة موجودة بالقوة وغائبة بالفعل، كان يرى في الماضي معنًى ما للمستقبل بعيدًا عن الحاضر وكان ذلك في صورة منه أشبه بما أراده عبد الحي من تأويل للهوية تماهى مع رؤية (جيمس جويس)، فقد صرح عبد الحي في شرح على هامش القصيدة متأولا ذلك المعنى بقوله: (في القصيدة ربما كانت سنار دفعة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب – كما رغب جيمس جويس من قبله – أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد) 1. والقيام بمثل هذا العبء عبر توسل الشعر كمجاز لمعرفة متصلة بالهوية لم يكن من السهولة بمكان. ذلك أن المعرفة بقدر اتساعها كـ(موضوع) في الحالة الشعرية؛ بقدر ما تنطوي على ضغطها كـ(ذات) في رؤية الشاعر. وكان عبد الحي باستمرار يشعر بهذا الضغط عبر جدلية المحو والكتابة المتجددة لهذه القصيدة التي لازمته زمنًا طويلا.
اجترح عبد الحي كتابة مختلفة في التعبير الشعري؛ سواءً لجهة الموضوع أو لجهة التفرد الذي بدأ صوتًا خافتًا في المشهد الشعري العربي الصاخب بالآيدلوجيا في ستينيات القرن العشرين، حين بدأ محمد عبد الحي كتابة قصيدة (العودة إلى سنار). كان الوصول إلى الهُويّة شعريًّا أقرب إلى الكشف الصوفي منه إلى الإدراك، بل كانت الهُويّة تَمثُّلا خفيًّا ولا واعيا، انتبه لها عبد الحي فجأة لقربها الشديد واللصيق من ذاته وقَدَره، وتاريخه، فيما كان يبحث عنها في مطارح أخرى بعيدة ولا يمكن أن توصله أبدًا إلى ذلك الكشف. لهذا صدَّر عبد الحي القصيدة بمقتبس صغير من الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي عن تجربة أبي يزيد البسطامي في خروجه من بلاده بحثًا عن الحق دون أن يدري أنه ترك الحق الذي يبحث وراءه في بسطام. (قال: يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك.
قال: طلب الحق
قال: الذي تطلبه قد تركته ببسطام
فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له).

نشيد البحر
في النشيد الأول، نشيد البحر، يرى الشاعر أُفقًا غامضًا لأمته المشار إليها بضمير الجمع، مصورًا بدايات رمزية خاملة، حيث البحر يحيل إلى معناه الأسطوري الموحش ماءً لبدايات كون غارب يرسم الشاعر من خلاله صورًا تشي بموات الحياة المنعكس في الطبيعة: ثمار بلا شجر، وظلال بلا شواخص، أشجار ميتة، وبقايا لحياة منسية في ظلمة البحر. ذلك أن الشمس الغارقة في البحر هنا ليست سوى صورةٍ بدائية لكينونة الوطن ما قبل تكوين مملكة البراءة، فهي شمس مكونة من أمشاج غير مكتملة من الفسفور في عالم الماء الموحش.
(أُبْصِرُ كيفَ مَرَّ أوَّلُ الطـُّيورِ فَوْقَنَا ودارَ دَوْرَتيْنِ قبلَ أنْ يغيبْ
في عتـْمةِ النُّورِ وفي حديقةِ المَغِيبْ
وكانتِ الشَّمسُ على المِياه أمشاجًا من الفسْفُور واللَّهيبْ
تَغرُبُ مِن قلب مياهِ الأفقِ الغربيّ
حديقةً وهْمِيَّةَ الثـِّمارْ)
والمعنى المضمر في مشاهد المقاطع الأولى من نشيد البحر التي تلي هذا المقطع يوحي بعلامات ذات غائبة ومنطمسة في البحر حيث: العتمة / الصمت / الظلام / الضباب / المغيب / الغور، في سياق تتكرر فيه بعض تلك المفردات؛ لتقوم دلالة على أبدية صامتة توحي بوعد غامض لحياة جديدة؛ حياة تتجلى عبر النور والكلام واللغة.
هذا العالم الميت الصامت في الغياب حيث تمحو صور الليل صور النهار فجأة تهب عليه رياح جديدة برائحة جديدة ولون جديد، فمن صمت الموت تزهر الحياة / الكلام، ومن الظلام تضيء المصابيح:
(وحَمَل الهَوَاءْ
رائحةَ الأرضِ
ولَوْنًا غَيْرَ لَوْنِ هذِه الْهاويةِ الْخَضْراءْ
وحَشْرَجَاتِ اللُّغةِ الْمَالِحَةِ الأصْدَاءْ
وفي الظَّلاَمْ…
كانتْ مصابِيحُ القُرى
على التِّلالِ السُّودِ والأشجَارْ
تطْفُو وتدْنُو مَرَّةً
وَمَرَّةً تَنْأى تَغُوصْ
في الضَّبَابِ والبُخارْ
تَسْقُطُ مِثلَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ في الصَّمْتِ الكَثِيفْ)
بيد أن تشكل صور الحياة المنبعثة من مصابيح القرى كعلامات متأرجحة ومؤذنة بظهور جديد؛ تبدو هنا خروجًا للنقيض من النقيض؛ لترتسم بداية جديدة يكون الشجر الحي فيها بديلا عن الشجر الميت، ولحم الأرض (خصوبتها). أما الأزهار فهي الحياة المنبعثة من الأشنات والليف في المشاهد السابقة لعالم البحر. والعلامة الدالة على ذلك الوضوح المتشكل من قلب العتمة البحرية هي الطيور
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ
وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الْحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
ويستثمر عبد الحي ثيمة التقطيع؛ ليضعنا فجأة أمام مشهد للقاء متخيل يجسد اكتمال الهُويّة والكينونة. ومن خلال البحث عن هذا اللقاء تأتي الأناشيد التالية تعبيرًا عن الرؤيا التي تسرد صيرورات هذه الهُويّة؛ عبر عوالم مختلفة وعناصر مزدوجة تؤشر على بدايات التكوين لهُويّة أمته:
(الليَّلةَ يَسْتَقبَلُني أهْلِي
خَيْلٌ تَحْجُلُ في دائرةِ النَّارْ
وتَرْقُصُ في الأجْرَاسِ وفي الدِّيِباجْ
امْرَأةٌ تَفْتَحُ بابَ النَّهْرِ وتَدْعُو
مِنْ ظُلمَاتِ الجَبَلِ الصَّامِتِ والأحْرَاجْ
حُرَّاسَ الُّلغَةِ ــ المَمْلَكَةِ الزَّرْقَاءْ
ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
في هذا المقطع يكشف عبد الحي عن الرمز والتكوين الدال عن الهُوية، فالمرأة هنا دالة الوطن، والنهر/ (النيل) هنا هو بديل عالم البحر الميت. ودالة الوطن (المرأة) إذ تستدعي اللغة من عالم الصمت؛ لغة المملكة الزرقاء 2 إنما تستدعي التاريخ في أقنوم الهوية؛ أي أن استدعاء سكان وحراس تلك المملكة الزرقاء عبر مخيال تاريخي في أفق الحاضر هو ما يعني اكتمال الهُوية.
فحين يقول عبد الحي:
(ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ)
يشير إشارة واضحة إلى عنصري التكوين المزدوج للذات السودانية المندمجة في (الزنوجة والعروبة) لأول مرة بقيام المملكة الزرقاء2. وهي أول مملكة التي جمعت بين الزنج والعرب في حلف واحد في القرن الرابع عشر، وكانت عاصمتها مدينة (سنار). وهنا نجد أن عبد الحي يذكر المملكة الزرقاء صراحة كدلالة تاريخية في نشيد البحر المكثف بالرموز؛ مؤذنًا بنهاية الزمن المطلق والمكان الموحش في عوالمه. وسينطلق الشاعر في بقية الأناشيد الأربعة من هذا التكوين؛ ليختبر المعنى الرمزي للهوية عبر الكثير من تأويلات الرؤى الشعرية. لكننا سنجد أيضًا أن بناء الرؤية في بقية الأناشيد يتصل بنشيد البحر في سياق بناء نقيض لرموزه كما سنرى لاحقا.

نشيد المدينة
على الرغم من أن المدينة المعنية هنا هي مدينة (سنار) المهد التاريخي للمملكة الزرقاء إلا أن رؤية الشاعر للمدينة هنا تحيل إلى مستوى رمزي لسنار. فسنار في الخطاب المضمر للنص هي فضاء الوطن المشتهى في المستقبل.
يبدأ النشيد بعودة بين زمنين ومكانين، فالشاعر إذ يصرح بأنه سيعود إلى سنار اليوم؛ تبدو العودة من خلال السياق عودة في زمن لاحق (المستقبل)؛ لأنها عودة متصلة بالحلم. ولتحقيق تلك العودة (الحلم) يربط الشاعر بين الثمر الناضج والجذر القديم، بين الصوت والصدى، كما بين ماء الليل وليل الدماء في حالة رمزية تشير إلى المعنى بأكثر من وجه. ومن خلال نشيد المدينة (سنار) يستدعي عبد الحي حوارًا مع أهلها، الحوار هو نتيجة اللقاء المتخيل في نشيد البحر، وهو جوهر المعنى في هذا النشيد؛ لأنه علامة الوصول التي تهيّئ للدخول إلى (سنار) بعد رحلة طويلة في المتاهة. ويبدو أن عبد الحي كتب هذا النشيد، حين كان في بريطانيا أثناء الدراسة العليا.
(سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الحُلمُ يَنْمُو تَحْتَ مَاءِ الليل أشْجَارًا
……………….
سَأَعُودُ اليَوْمَ يا سِنَّارُ حَيْثُ الرَّمْزُ خَيْطٌ
مِنْ بَرِيقٍ أسْوَدَ بَيْنَ الصَّدَى والصَّوْتِ
بَيْنَ الثَّمَرِ النَّاضِجِ والجَذْرِ القَدِيم.)
وكما فصل عبد الحي بين زمن البحر (زمن الغياب وما قبل التكوين) وبين زمن التكوين بعلامات مضمرة، في نشيد البحر ومتذررة في بقية الأناشيد كعلامة (طيور النار)، نجده كذلك يستصحب تأويل البحر ورموزه داخل النص في نشيد المدينة، ذلك أن نشيد البحر، كما أسلفنا سابقا؛ هو النقيض الذي تتكشف من خلاله الهُوية في الأناشيد، وبهذا المعنى فإن البحر هنا يحمل أكثر من دلالة على الغياب؛ سواء لجهة الفضاء التاريخي السابق لتكوين المملكة الزرقاء، أو لجهة المكان المحايث والزمان المحايث للشاعر بعيدًا عن التحقق الذي ظل ينشده بحثًا عن الهوية.
(فافتحوا حراس سنار افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
بَدَوِيٌّ أنْتَ؟
- لا
مِنْ بِلادِ الزِّنْجِ
- لا،
أنا مِنْكُمْ تَائِهٌ عَادَ يُغنِّي بِلِسَانٍ
ويُصَلِّي بِلِسَانْ
مِنْ بِحَارٍ نَائِيَاتٍ لَمْ تُنِرْ في صَمْتِهَا الأخْضَرِ أحْلامُ المَوَانِئ)
ومن خلال الحوار يسرد الشاعر رؤاه فصولا من سفر الغياب والمتاهة، وهي رؤى تتجلى عبر الحواس وتتخذ من عوالم البحر وإشاراته الدلالية في النص قناعًا لذلك الغياب، عبر تلك الرؤى الغامضة يبحث الشاعر عن أيقونته الساحرة في الأمواج العظيمة للبحر؛ فيرى ويسمع أشكالاً غامضةً في طور التخلق: الهيكل العظمي، واللحم السائل، والأصوات المجمجمة بكلام مهموس، ثم يشهد الشاعر في عالم البحر انزياحات مختلطة لمشاهد مكانية وأراضٍ تحيل على التباس الرؤيا، يوحي الشاعر عبرها بقناع المكان الذي هجس فيه بتلك الرؤى (بريطانيا) المختلطة برمزي التكوين: الزنوجة والعروبة، في إشارة واضحة، كذلك إلى استصحاب الآخر كدلالة مضمرة للمكان من ناحية، وكتماهٍ مع تقنية في الكتابة الشعرية العربية القديمة من ناحية ثانية.
(بَاحِثًا بَيْنَ قُصُورِ المَاءِ عَنْ سَاحِرَةِ المَاءِ الغَرِيبَة
………….
وسَمِعْتُ ما سَمِعْتُ
ضَحَكَاتِ الهَيْكَلِ العَظْمِيِّ؛ واللَّحْمِ المُذَابْ
فَوْقَ فُسْفُور العُبَابْ
يَتَلَوَّى وهو يَهْتَزُّ بِغُصّاتِ الكَلامْ.
وشَهِدْتُ ما شَهِدْتُ
……………….
صَاحِبِي قُلْ ما تَرَى بَيْنَ شِعَابِ الأرْخَبِيلْ؟
أرْضَ ديكِ الجِّنِّ أمْ قَيْسِ القَتِيلْ؟
أرْضَ أَوْدِيبَ ولِيْرَ، أمْ مَتَاهَاتِ عُطَيْلْ؟
أرْضَ سِنْغُورَ عَلَيْهَا مِنْ نُحَاسِ البَحْرِ صُهْدٌ لا يَسِيلُ؟)
هكذا إذ يستخدم عبد الحي تقنية التقطيع من خلال الحوار في هذا النشيد، تبدو تفاصيله سردًا لمتاهة الغياب المفضية إلى المدينة، ذلك أن معنى الحوار لن يكتمل في نهاية النشيد إلا بتلك التفاصيل التي يحضر فيها البحر كعلامة لذلك الغياب؛ الذي من خلاله يصل الشاعر ثم يدخل في مدينته. لقد ذكر الشاعر البحر صراحة وتأويلا أكثر من ستِّ مرات في نشيد المدينة؛ ليرسم عبر تلك العلاقة بين الرمزين حدود المعنى وحدود الهُوية وحدود المكان؛ ويختبر عبد الحي غنائية مفعمة بالعواطف ليتمثل معنى الهوية:
(وبَكَيْتُ ما بَكَيْتُ:
مَنْ تُرَى يَمْنَحُنِي
طَائِرًا يَحْمِلُنِي
لِمَغَانِي وَطَني
عَبْرَ شَمْسِ المِلْحِ والرِّيحِ العقَيِمْ
لُغَةً تَسْطَعُ بِالحُبِّ القَدِيمْ)
فالطائر هنا هو علامة الرؤية والوضوح، فيما شمسُ الملح هي البحر الذي تاه فيه طويلا. وسنجد أن للطيور في نشيدَيْ البحر والمدينة علاقةً بوضوح الرؤيا وظهور المعنى الدال على الهوية. ففي نشيد البحر قال عبد الحي:
(وارْتَفَعَتْ مِنْ عَتمةِ الأرْضِ طُيُورُ النَّارْ)، ثم قال بعد ذلك في ذات النشيد
(وهاهِي الآنَ جُذُوعُ الشَّجَرِ الحَيّ
ولَحْمُ الأرْضِ
والأزْهَارْ)
أما في نشيد المدينة؛ فيقول عبد الحي مؤذنًا بوضوح الرؤيا بعد المتاهة في البحر:
(حَيْثُ آلافُ الطُّيُورْ نَبَعَتْ مِنْ جَسَدِ النَّار)
ليعيد بعد ذلك استئناف الحوار مخاطبًا حراس المدينة التي وصل إليها:
(فَافْتَحُوا، حُرَّاسَ سِنَّارَ، افْتَحُوا لِلعَائِد ِاللَّيْلَةَ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وليجد جواب المعرفة من حراس المدينة:
(إنَّنا نَفْتَحُ يا طَارِقُ أبْوَابَ المَدِينَهْ)
وهكذا يدخل الشاعر إلى مدينته التي تاه بعيدًا بحثا عنها؛ فيما هي قريبة منه؛ لينام:
(مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ
والطَّيْرُ في أعْشَاشِهِ
والسَّمَكُ الصَّغِيرُ في أنْهَارِهِ
وفي غُصُونِهَا الثِّمَارْ
والنُّجُومُ في مَشِيمَةِ السَّمَاءْ)

نشيد الليل
ينطوي نشيد الليل على مجاز رؤية متصلة بختام النشيد السابق (نشيد المدينة)؛ لهذا يفتتح الشاعر نشيد الليل بذكر المدينة، لكن المدينة هنا هي جزء من الليل فهي مكان الحلم الذي يراه الشاعر في الليل.
ويمكننا القول إن نشيد الليل هو امتداد حلمي لنشيد المدينة. فالشاعر يستخدم الإيهام المتصل بعالم البحر وبدايات التكوين؛ بطريقة يمكن أن تربك القارئ في فك دلالة الوضوح الصاعدة نحو الرؤيا في الأناشيد، وبهذا المعنى فإن إحالات نشيد الليل نسق منعكس لإحالات نشيد البحر. وبما أن نص عبد الحي هو نص إحالات بامتياز؛ سنجد أن إحالات نشيد الليل هي رموز جنينية لعالم مكتمل في اليقظة يعود إلى بداياته عبر الحلم، وهي أيضًا رموز يحاول الشاعر من خلالها تأويل الاندماج في تصور الهُوية المكتملة عبر بداياتها الأولى المختزنة في النواة، وهو تأويل يتصل بترميز مركب حاول الشاعر من خلاله تجسيد دلالة الهُوية في ذات أسطورية؛ تتصل بالخرافة وتدل على الفرادة في الوقت عينه؛ حيث يستدعي الشاعر الكائن الخرافي (السمندل) من التراث العربي للإشارة إلى أُقنوم الهوية المركب للسلطنة الزرقاء.
وبعد أن قال الشاعر في ختام نشيد المدينة بعد دخوله إلى سنار:
(ونِمْتُ
مِثْلَمَا يَنَامُ في الحَصَى المَبْلُولِ طِفْلُ المَاءْ……..) (نشيد المدينة)
يبدأ نشيد الليل بهذا المقطع
(وفَتَحَتْ ذِرَاعَها مَدِيِنَتي وحُضْنَها الرَّغِيدْ)
في نشيد الليل تذوب روح الشاعر في حلمه، حيث تنفتح على رؤاه بدايات مملكة البراءة والزرقة؛ ذلك أن الليل في هذا النص هو حاضن الحلم الذي تتجلى من خلاله علامات الرموز الأولى المهيأة للنضج الأبديّ في أفق الشمس الزرقاء. والتي يتأمل من خلالها الشاعر حالة الأُقنوم الذي سيجسّد بتكوينه المركب بداية جديدة لتكوين عناصر مملكة البراءة، والسمندل هو الذات التي تستقطب تلك العناصر.
(ويَعْبُرُ السَّمَنْدَلُ الأحْلامَ
في قَمِيصِهِ المَصْنُوعِ مِنْ شَرَارْ)
(في اللّيْلِ حَيْثُ الثَّمَرُ الأحْمَرُ
والبُرْعُمُ، والزَّهْرَةُ في وَحْدَتِهَا الأولَى
مِنْ قَبْلِ أنْ تُعْرَفَ مَا الأشْجَارْ)
ومن خلال نشيد الليل يعود الشاعر مرة أخرى إلى جدلية الدم والماء (ماء الليل)، (وليل الدماء) التي أشار إليها الشاعر في النشيد السابق (نشيد المدينة)، فالماء يسبق الدم، حيث الماء هيولي، والدم تكوين، الماء عدم والدم وجود؛ وهي جدلية؛ تشكل باستمرار إطار الكينونة المتخلقة من الغياب إلى الحضور، ومن الصمت إلى اللغة، جدلية الماء والدم تستدعي التحول من العدم إلى الوجود، أو الظهور عبر مصهر النار المتصل بعلامة الطيور الدالة على الوضوح في المعجم الشعري لهذا النص. ويأتي الصقر في هذا النشيد علامة على بداية التكوين المتصل بالنهاية في مجاز الليل فبين اللحم والعظام يكون الدم علامة الحياة:
(في اللَّيْلِ يَنْتَاشُ بَقَايَا خُرْقَةِ اللَّحْمِ على العِظَاِم
صَقْرُ اللَّيِلِ ثُمَّ تَصْعَدُ الدِّمَاءْ
غَمَامَةً فِضِّيَّةً فَوْقَ حُدُودِ المَاءْ)
في هذا النشيد؛ تعكس دلالة الرموز عبر استعارة الليل رؤية للنهاية المكتملة للهوية في أصل العناصر الأولى، من خلال استعادة حلمية، فهي اكتمال قائم ومركوز في أصل البدايات، وهذه الاستعادة الرؤيوية تتكشف عن سياق نقيض لسردية البدايات في نشيد البحر.
هكذا نجد في نشيد الليل امتدادا لنشيد المدينة، ورؤية نقيضة لنشيد البحر؛ فالنشيد / اللغة يعود لشكله القديم مع انبثاق الصورة الأولى من البحر
(وتَتَلوَّى الصُّورَةُ الأولَى
وتَطْفُو في مِيَاه الصَّمْتِ
حَيْثُ يَرْجِعُ النَّشِيدْ
لِشَكْلِهِ القَدِيمِ
قَبْلَ أنْ يُسَمِّي أو يُسَمَّى في تَجَلِّي ذَاتِهِ الفَرِيِدْ)

نشيد الحلم
يفتتح الشاعر نشيد الحلم بصورة الصقر الذي اختتم به نشيد الليل تمهيدًا لرؤيا/ بشارة يراها الشاعر في آخر الليل؛ لينتظر بعدها شمس القبول، ونهاية الليل التي تسفر عن حلم؛ تقوم دلالة على قدوم الفجر الذي يستدعي غياب عالم الظلام وكائناته:
(الصَّقْرُ عَادَ لِلجَّبَلْ…..
واهْتَزَّتِ النَّخْلَةُ في رشَاقَةٍ وفَوْقَهَا بُرْجُ النُّجُومِ المُكْتَمِلْ
يَجْنَحُ لِلأفُوُلْ
كَمَلِكٍ قَتِيلْ
ورَجَعَ السَّبْعُ إلى عَرِينِه، ونَزَلَ الجَّامُوسُ لِلمِيَاهْ)
في هذا النشيد يستعيد عبد الحي رؤى البحر المنطفئة، الرامزة إلى الغموض، والعتمة؛ ليظهر بعدها الطير مرة أخرى في براري الحلم علامة على الرؤيا وبروز عوالم متصلة بالكشف. وعلى الرغم من أن الصوت الفردي يناسب فضاء الحلم؛ فإن الشاعر يختبر مرة أخرى رؤاه في ضوء إشارات نشيد البحر ويستدعي بعض إحالاته:
(ولَمْ يَزَلْ طَيْرُ دَمِي يَصِيحْ
…………………
ويَضْرِبُ المَوْجُ بَرَارِي حُلُمِي
وتَحْمِلُ الرِّيَاحْ
لِي مَرَّةً ثَانِيَةً رَائِحَةَ البَّحْرِ ونَقْشًا مِنْ نُقُوشِ لُغَةٍ مَيِّتَةٍ عَلى الْجِرَاحْ)
ولأن تأويل البحر في نص عبد الحي يستدعي المتاهة؛ فإن الشاعر يتساءل عن مغزى تلك الرؤى المستعادة في الحلم من نشيد البحر، ومن خلال هذه التساؤلات التي تتأول احتمالاتها بين الوعي والغموض، والحضور والغياب على امتداد مقاطع النشيد تتضح عوالم الحلم من خلال الرموز، فبعد أن يستعيد الشاعر ذلك المشهد من عالم البحر في نشيد الحلم يقول:
(أدَعْوَةٌ إلى سَفَرْ
أمْ عَوْدَةٌ إلى ظَلاَمِ الأرْضِ والشَّجَرْ
أمْ صَوْتُ بُشْرَى غَامِض يَرْجُفُ كَالسِّحْلِيَّةِ الخَضْرَاءِ تَحْتَ خَشَبَاتِ البَابْ
يَبْعَثُهُ مِنْ آخِرِ الضَّمِيرِ مَرَّةً عُوَاءُ آخِرِ الذِّئَابْ
في طَرَفِ الصَّحْرَاءِ، مَرَّةً رَنِينُ مَعْدَنٍ في الصَّمْتْ
ومَرَّةً هَمْسُ عَصَافِيرِ الثِّمَارِ حِينَمَا يَلْمَسُهَا بِالَّلهَبِ الأزْرَقِ جِنِيُّ القَمَرْ)
في هذا المقطع تبدو علامات الرحلة في الحلم عبر رموز الهوية الكامنة في أقنومها؛ فالذئاب التي ترمز إلى الغابة يتصادى عويلها في الصحراء؛ برنين الذهب في صمت البدايات؛ وهمس الثمار الصيفية الناضجة.
إنه صوت البشارة إذ يتشكل عبر أصوات تلك الرموز بين مختلف الأشكال؛ ليتحول إلى صوت باب الجبل الدال على المملكة الزرقاء حيث يشير الشاعر إلى هذا المعنى بقوله:
(أمْ صُوْتُ بَابِ جَبَلٍ يَفْتَحُهُ في آخِرِ اللَّيْلِ وقَبْلَ أوَّلِ الصَّبَاحِ
المَلِكُ السَّاهِرُ في حَدِيقَةِ الوَرْدِ البِدَائِيَّةِ في إشْرَاقَهِ الجِرَاحْ
يَمُدُ لِي يَدَيْهِ
يَقُودُنِي عَبْرَ رُؤى عَيْنَيَهِ
وعَبْرَ أدْغَالِ لَيَالِي ذَاتِكِ القَدِيِمَهْ
لِلذَّهَبِ الكامِنِ في صُخُورِكِ العظَيِمَهْ)
وهكذا يقع الشاعر على صورته الأولى المفضية للذاكرة الأولى؛ ليحتمي بها من الضياع في المتاهة. فالرموز التي يوردها الشاعر في رحلته عبر الحلم تعيد باستمرار ملامح ذات تاريخية قديمة في أشكال: الزهرة، والثعبان المقدس، تمثال العاج، والنقوش السوداء، وهي رموز تاريخية تشكلت في رؤى الشاعر كبشارة للرؤيا الكبرى في المستقبل.
ويتحول صوت البشرى الغامض إلى أصوات أخرى أكثر وضوحًا، صوت باب الجبل الذي يرمز إلى صدى الكينونة في التاريخ (الملك / المملكة الزرقاء) ثم صوت الوطن المسموع في صوت المرأة / الوطن التي تفتح باب الجبل.
وبعد أن يرى الشاعر تلك الرموز ويسمع الأصوات يتساءل:
(حُلُمٌ مَا أُبْصِرُ أمْ وَهْمٌ
أمْ حَقٌ يَتَجَلَّى في الرُّؤيَا؟)
وهذا التساؤل سيصاحب الشاعر خلال هذا النشيد في حلمه الطويل.
فالمرأة /الوطن حين تفتح أبواب الجبل الصامت، وتستعيد الضوء عبر قناديل العاج؛ تنام في عتمة التاريخ؛ لتولد مرة أخرى في انبعاث جديد بين الحرير وتتهيأ بحميمية النشوة والرنين جسدًا ناضجًا بين يدي شيخ يعرف خمر الله وخمر الناس:
(أسَمَعُ صَوْتَ امْرَأةٍ تَفْتحُ بَابَ الجَّبَلِ الصَّامِتِ تَأتِي بِقَنَادِيِلِ العَاجِ
إلى دَرَجَاتِ الهَيْكَلِ والمَذْبَحِ ثُمَّ تَنَامُ….
لِتُولَدَ بَيْنَ الحُرْحُرِ والأجْرَاسْ
شَفَةً، خَمْرًا، قِيثَارًا
جَسَدًا يَنْضَجُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ شَيْخْ)
ويتحول الصوت إلى لغة في شفاه من ذهب:
(لُغَةً فَوْقَ شِفَاهٍ مِنْ ذَهَبٍ
أمْ نُورٌ في شَجَرِ الحُلُمِ المُزْهِرِ
عَدَدَ حُدُودِ الذَّاكِرَةِ الكُبْرَى
الذَّاكِرَةِ الأُولَى)
هكذا تتحول الأصوات إلى رموز واضحة في رؤية الشاعر من التاريخ إلى الوطن؛ لتجد معناها الكامل في ثمرة العلاقة بين المرأة والشيخ طفلا يجسده صوت الشاعر المعبر عن صوت شعبه:
(أمْ صُوْتِي يَتَكَوَّرُ طِفْلًا
كَيْ يُوْلَدَ في عَتَبَاتِ اللُّغَةِ الزَّرْقَاءْ)
بيد أن الشاعر يرى الحلم مكتملًا من وراء أفق بعيد، فصوته الوليد لا يزال متكورًا يحمل في ذاته أطيافًا غامضة؛ لأجيال في الغيب البعيد؛ حيث يكتمل النشيد ويتجسد الصوت:
(وتجِيئُ أشْبَاحٌ مُقَنَّعَةٌ لِتَرْقُصَ حُرةً زَمَنًا، على جَسَدي الذي يَمْتَدُ أدْغَالًا، سُهُوبًا تَمْرَحُ الأفْيَالُ، تَسْتَرْخِي التَّماسِيحُ، الطُّيورُ تَهُبُّ مِثْلَ غَمَامةٍ، والنَّحْلُ مِرْوَحَةٌ يغنّي وهو يَعْسِلُ في تَجَاوِيفِ الجِبَالِ، وتَسْتَدِيرُ مَدِيَنةً زَرْقَاء في جَسَدِي، ويَبْدَأُ صَوْتُها، صَوْتِي، يُجَسِّدُ صَوْتَ شَعْبي، صَوْتَ مَوْتَاي الطَّلِيقْ)
لقد ظل عبد الحي يطارد صوته ورمزه في الحلم؛ حتى عثر على معناه في المقطع السابق؛ ولهذا يقول الشاعر في نهاية نشيد الحلم:
(مَاذَا أكُونُ بِغَيْرِ هذا الصَّوْتِ؛ هذا الرَّمْزِ هذا العِبْءِ يَخْلُقُنِي وأخْلُقُهُ)
وإذ يكتمل الحلم أخيرًا بعد مَتاهٍ داخل الليل؛ ينام الشاعر مرتاحًا في انتظار الشمس:
(وحِيْنمَا يَجْنَحُ آخِرُ النُّجُومِ للأُفُولْ
ويَرْجِعُ المَوْتَى إلى المَخَابِئِ القَدِيِمَهْ
………………………………..
أنَامُ في انْتِظَارْ
آلِهَةِ الشَّمْسِ وقَدْ أُتْرِعَ قَلْبِي الْحُبُّ والقَبُولْ).

نشيد الصبح
سنلاحظ أن إيقاع هذا النشيد مختلفٌ عن بقية الأناشيد، في سرعته التي توازي اهتزاز الفرح والقبول، وما يتصل بذلك من خفة ونشوة.
يفتتح الشاعر هذا النشيد مستقبلًا شمس (سنار) بالترحاب والحفاوة؛ فالصبح هو أفق القبول الذي تتجلى فيه شمس الهوية، ويتمثل الشاعر من خلاله حقيقة الرؤيا عبر يقين خرج به من متاهة الغياب.
وإذا كان الشاعر قد أخلد إلى النوم في النشيد السابق، بعد أن رأى الحلم متجليًّا لينتظره مع الشمس؛ فإن القبول هنا علامة الرضا والاكتمال:
(مَرْحَى تُطِلُّ الشَّمْسُ هذا الصُّبْحَ مِنْ أُفُقِ القَبُولْ
لُغَةً على جَسَدِ المِيَاهْ)
هكذا يكتمل الصوت عبر اللغة ويتصل الضوء بالأصول البعيدة، في ليل الجذور؛ لتبدو سنارُ شمسًا تسطع من جديد:
(اليَوْمَ يَا سِنَّارُ أقْبَلُ فِيكِ أيَّامِي بِمَا فِيِهَا مِنَ العُشْبِ الطُّفَيْليِّ الذي يَهْتَزُّ تَحْتَ غُصُونِ أشْجَارِ البَرِيقْ)
وبالرغم من أن العشب الطفيلي الذي ذكره الشاعر هنا كدالة على هوامش وبقايا عالقة، أو زائدة تحت أشجار البريق، إلا أن هناك ما يمكن أن يكون دلالة مضمرة حيال مكونات أخرى عالقة، وحائلة دون صفاء الهوية.
بيد أن دالة القبول هنا المعبر عنها باللازمة الزمانية (اليوم أقبل….) ربما كانت دالة على معنى ظلّ عسيرًا على القبول في الذاكرة العربية التقليدية؛ ذلك أن تمثل عبد الحي وقبوله ورضاه بهويته التي ضاع عنها زمنًا؛ ليقبل بها من خلال أُقنومها المزدوج (العروبة والزنوجة) كان بمثابة انتهاك جسور لتابو الثقافة الشعبوية العربية التي كانت تتماهى مع مكون واحد (المكون العربي)، كمرجعية عرقية ولغوية، وتنكر المكوِّن الزنجي الذي ظل بمثابة التابو في سرديات الثقافة الشعبوية العربية؛ ولهذا فإن إشارات القبول التي تتكرر في نشيد الصبح تحيل بصورة من الصور إلى تجاوز عبد الحي لذلك التابو المفروض على ذاكرة الثقافة العربية الشعبوية لشمال السودان. في هذا النشيد يضج بالوضوح كثمرة للرؤيا، ويتأمل الشاعر ما يتدفق من ضوء شمس الرؤيا؛ ليملأ به الحواس وهو امتلاء يقوم على تذويب وتشذيب بقايا العتمة؛ ليستعيد الشاعر صفاء اللغة في الغناء:
(وأقُولُ: يَا شَمْسَ القَبُولِ تَوَهَّجِي في القَلْبِ
صَفِّيِني وصَفِّي مِنْ غُبَارٍ دَاكِنٍ:
لُغَتِي غِنَائِي)
ويستمر الشاعر في توصيف العناصر المزدوجة للأُقنوم المركب في سنار الجديدة:
(سِنَّارُ
تُسْفِرُ فِي
بِلاَدِ الصَّحْوِ جُرْحًا
أزْرَقًا، قَوْسًا، حِصَانًا
أسْوَدَ الأعْرَافِ، فَهْدًا قَاِفزًا في
عَتْمَةِ الَّدَّمِ، مَعْدَنًا في الشَّمْسِ، مِئْذَنَةً،
نُجُومًا في عِظَامِ الصَّخْرِ، رُمْحًا فَوْقَ مَقْبَرَةٍ ـ
كِتَابْ)
وإذ يعود الشاعر إلى ذكر سنار صراحة في هذا النشيد الأخير، كما ذكرها في نشيد البحر ناعتًا إيّاها بالمملكة الزرقاء؛ فإن ذلك يستدعي بالضرورة مقابلةً للوضوح؛ تقوم نقيضًا لعالم الغموض والغياب، عالم البحر، ويذكر الطيور ضمن دلالتها الخاصة في هذا النص:
(رَجَعَتْ طُيُورُ البَحْرِ فَجْرًا مِنْ مَسَافَاتِ الغِيَابْ
البَحْرُ يَحْلُمُ وَحْدَهُ أحْلاَمَهُ الخَضْرَاءَ في فَوْضَى العُبَابْ
البَحْرُ إنَّ البَحْرَ فِينَا خُضْرَةٌ
حُلُمٌ هَيوُلَى)
ويختم الشاعر نشيده الأخير في القصيدة باكتمال شمس الهوية/ الوطن؛ ليطمئن هذه المرة ليس على رضاه النفسي وتوازنه بعد صراع طويل؛ بل وكذلك على سيرورة المستقبل في أفق الوطن الطالع من شمس الهوية، فالشمس تكررت أربعَ مراتٍ في هذا النشيد.
كما يتجلى في هذا النشيد معنى الوضوح المعبر عنه بأكثر من دلالة، وهو وضوح يتفرع عن الشمس: البريق / الوهج / اللهب / اللمعة / الظهيرة /الصحو / الإسفار/ النقاء. و في موازاة الضوء تأتي ثيمة اللغة كدلالة على الهُوية، ذلك أنّ الهُوية مسألة لغوية في جذورها كما يقول (جون جوزيف) فـ(التفكير في اللغة والهوية يستلزم تحسين فهمنا لماهيتنا)3؛ ولهذا نجد عبد الحي ذكر مفردة اللغة أربعَ مراتٍ تمامًا كمفردة الشمس؛ ما يعني أنّ صورة الهُوية ومعناها يقومان على الرؤية واللغة
(الشَّمْسُ تَسْبَحُ في نَقَاءِ حُضُورِهَا، وعلى غُصُونِ القَّلْبِ عَائِلَةُ الطُّيُورِ، ولَمْعَةٌ سِحْرِيَّةٌ في الرِّيِحِ، والأشْيَاءُ تُبْحِرُ في قَدَاسَتِهَا الحَمِيَمهْ
وتَمُوجُ في دَعَةٍ فلا شَيْءٌ نَشَازْ، كُلُّ شَيءٍ مَقْطَعٌ، وإشَارَةٌ تَمْتَدُ مِنْ وَتَرٍ إلى وَتَرٍ على قِيْثَارَةِ الأرْضِ العَظِيمَة).

المعنى الثقافي لـ(العودة إلى سنار)
إنّ الهُوية التي تمثلها عبد الحي في شعره كانت في الحقيقة تَمثُّلًا جماليًّا لمكوّن كبير من مكونات الهُوية السودانية، دون أن تكون مستوفية لمشمولات الهوية في الكيان السوداني؛ يفسر ذلك أن الزّنوجة والإفريقانية جاءت في تأويله للهُوية كعنصر في سياق الدلالة على هُويّة الوسط والشمال السوداني. وبطبيعة الحال لم يكن هذا التعريف الشعري يتضمن هُويّات زنجية أخرى صرفة في الجنوب والغرب؛ أي أنّ محمد عبد الحي كان يختبر هُويّة ناقصة، ويعيد تفسيرَ مكوِّنٍ مسكوتٍ عنه في هُويّة سودان الوسط والشمال؛ ما يعني بالضرورة أن الغابة والصحراء كانت تجربة لغوية جسورة واجهت الثقافة الشعبوية العربية في شمال السودان بمكون آخر، كان بمثابة التابو في ما هو معلن من سرديات تلك الثقافة العربية.
لقد نجح عبد الحي في مقاربة هُويّة ما للسودان عبر الشعر، وبعيدًا عن الآيدولوجيا لكن نجاحه هذا ظلّ يدرج الهُويّة الزّنجية للسودان مشروطةً بالاندماج في الهُويّة العربية؛ أي لم يكن هناك حديثٌ عن هُويّة زنجيّة ناجزة، وخالصة في مكوّنات السودان السياسي ضمن رؤيته للأنا السودانية.
كانتِ (العودة إلى سنار) انتهاكًا لأسطورة الهُويّة العربية الصافية في السودان، وتعبيرًا جسّد اعترافًا بالزّنوجة في إطار مشروط بالعروبة ومندمجٍ فيها. إنّ (العودة إلى سنار) في المعنى الثقافي لدلالتها، حاولت أن تعبر في فضاء ثقافي عربيٍّ عن هُويّة مزدوجة؛ لكن تعبيرها ذاك كان في تأويله الأخير إعادة تعريف بهُويّة ناقصة في بلد ما تزال للزّنوجة فيه هُوية مَحضة، ومتماسكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إحالات
1 العودة إلى سنار ص 37 الطبعة الثالثة عن دار مدارات ــ الخرطوم 2010
2 (المملكة الزرقاء) كانت أول كيان سوداني جمع بين الزنج والعرب في حلف واحد. وكانت عاصمتها مدينة (سنار). تأسست المملكة الزرقاء في القرن الرابع عشر وانتهت في بداية القرن التاسع عشر.
3 كتاب اللغة والهوية صفحة 54: جون جوزيف، ترجمة عبد النور خراقي ـ سلسلة عالم المعرفة 2007 الكويت

محمد جميل أحمد

* شاعر وناقد من السودان
نقلا عن البعيد الالكترونية

الوجود والعدم في جدارية محمود درويش






تـتـفسح الأبدية البيضاء على حافة العدم، لتفارق شرط الوجود المجمَّد في جليد الحواس، ولتكثف انثيالات أفلتت من برزخ الزمن المهجور، بمرايا صقلت درويش في ينابيع البراءة الأولى، لتنكشف حجب البصيرة في أفق بعيد، حيث يتحد (ضِّـداه في المعنى)، وحيث يفرغه(الهباء من الإشارة والعبارة). ومن ثم تفيض حقائق الأشياء دون مجازها.
وينفذ درويش من جدار العدم، لا ليشرح (ما يقول الله للإنسان)؛ بل ليستعيد بكل ما أوتي من قوة: (لغةً تجاور كوكباً أعلى). ومن خلال هذه اللغة الأولى تنهمر الرؤيا ويتكثف الوجود بملامح تشد الحلم والحقيقة إلى تناسخ طليق مشدود بمأزق إنساني تتفجر منه الأضداد وتتوحد في أفق الرؤيا. لذلك كانت الأبدية البيضاء مجاز الرؤيا إلى كينونة الوجود. وهو وجود مغاير لحياة الموتى التي عاشها درويش قبل دخول الأبدية؛ تلك الحياة التي يقصر فيها الوعي عن الحضور، ويلتبس فيها الواحد والمتعدد في البحث عن الذات والآخر. كأن ضبابها أفضى به إلى الوجود الذي يراه، ولا يراه غيره.

(ولا يكفي الكتاب لكي أقول وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب
وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين
وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة
هل أنا الفرد ُ الحُـشود)

ويجسر التناسخُ الوجودَ الذي يتمدد عبر الأزمنة لتتحول الذات روحاً تفتح أفق الرؤيا على المأساة، وتعيد أصل المعنى إلى ينابيعه الأولى؛ فالتناسخ هو شرط الرؤيا الذي به يتجسد الشعر في الزمن الدرويشي، وتتحول فيه الذات عبر الأمكنة:

(في الجرة المكسورة انتحبت نساء الساحل السوري من
طول المسافة واحترقن بشمس آب
رأيتهن على طريق النبع قبل ولادتي
وسمعت صوت الماء في الفخـَّار يبكيهن:
عدن إلى السحابة يرجع الزمن الرغيد)

ويكشف تأويل الرؤيا من وراء الواقع الكثيف يقينٌ متوتر يشف زجاجه عن الذات المتوحدة مع حقيقتها، وغربة الأنا بين حشود الزيف؛ تلك الغربة التي تعاين الشهود كلما اخترقت العدم إلى وجودها الحق بين حافتي الأزل والأبد؛ لتنبعث مرة أخرى من الرماد كطائر الفينيق. كأن هول المأساة يحترق منذ الأزل لتتماهى صورة الأرض مع حديقة الفردوس العليا، وليعيد محمود درويش من (آدم) نسخته الأولى في بدء التكوين الذي يفجع اللذة بالحرمان، والحضور بالغياب:

(سأصير يوماً ما أريد
سأصير يوماً طائراً وأسل من عدمي وجودي
أنا حوار الحالمين عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل
رحلتي الأولى إلى المعنى فأحرقني وغاب
أنا الغيابُ أنا السماوي الطريد).

وتهدر هذه الصيرورة إلى يقينها الأبدي رغم كثافة الواقع التي تحجب الوجود. لكن هذا الواقع لا ينعكس إلا سرابا يترقرق وراءه ماءُ الحقيقة الذي يراه الشاعر الكبير، فيحس عند ذلك بالوحدة والغربة والبعد، فما زالت الرؤيا بعيدة عن الآخرين:

(لم يبلغ الحكماء غربتهم
كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم).

ولذلك لا يتكلم درويش خلال النص إلا بضمير الأنا وصوته الفرد الذي يوشك أن يكون همساً، ربما للمفارقة بين ما يراه هو، وما لا يراه الآخرون، بين صوت القلب، والنشيد الملحمي، أي بين همس الغناء، وقعقعة السلاح. ومن هنا ربما كان الحزن أيضاً رديفاً للغربة والوحدة والبعد حين يتأمل الشاعر الكبير مصيره الذي ينكشف يقيناً تحت قدميه، فيما هو وراء الأفق البعيد البعيد:

(سأصير يوماً شاعراً والماء رهن بصيرتي/
لغتي مجازٌ للمجاز فلا أقول ولا أشير /
أنا من هناك “هـُـنـَا” يَ يقفز من خطاي إلى مخـَّيلتي
أنا من كنت أو سأكون يصنعني ويصرعني الفضاء ُ اللانهائي المديد).

ودرويش يوتر المعنى موغلاً في تداعيات يعيد تشكيلها بغنائية تقطع الأنفاس في موج الكلمات التي تخنق القارئ في إبحاره مع النص. فهي تسريعٌ يتصادى من تقنية المجاورة بين المترادفات، وتكرار الجُمل، أي أن السرعة هنا تسبق حصان الموت الذي يطارد درويش دون أن يدركه:

(ويا موت انتظر يا موت حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع “…. ”
وأنا أريد أريد أن أحيا فلي عمل على جغرافيا البركان
من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما واليباب هو اليباب).

فالتكرار والمجاورة في الكلمات لا يستدعيان حشواً، بل توتيراً موازياً للمعنى يستدعي بدوره غريزة البقاء. فمطلق الوجود، فضلاً عن الوجود المطلق، في هذا النص هو غاية قصوى لدفاع الشاعر عن الحياة، قبل الدخول في (باب القيامة). وكما أن الأبدية البيضاء هي مجاز المكان في الرؤيا، في اللازمان ولا مكان، كما أسلفنا؛ كذلك الرؤيا هي تقنية النص الكاملة. ذلك أن الرؤيا/الحلم ربما كانت هي الفضاء الوحيد للحكاية عن الوجود والعدم، دون أن تكون في ذاتها وجوداً ولا عدماً.
وضفاف الموت في الرؤيا هي أصفى حالات المكاشفة والصراحة التي يعوقها أحياناً شرط الوجود المادي، وحضور الوعي في الذات. ليتحرر الشاعر من وثاق الزمن والتأويل والآخر، فيما يشبه هذيان العقل الباطن.
وكما تتحرر الذات في ضفاف الموت، تستدعي الذاكرة أجمل ما في اللغة الأعلى. ولعل هذا هو سر تضمين بعض النصوص القديمة للشاعر في (الجدارية) كوصايا محررة من اختياراته (كما صرح درويش بذلك في إحدى حواراته مع بعض النقاد). وتأتي الإشارة لنفي الحلم في مفتتح النص كخداع سردي، ضمن لعبة النفي والإثبات والواحد والمتعدد. لأن التشكيك والتبديل المفتوح في تكسير علاقات المعنى والأشياء هو أصل الرؤيا في النص.

(ولم أحلم بأني كنت أحلم / كل شيء واقعيٌ
كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانباً….
وكأنني قد مت قبل الآن / أعرف هذه الرؤيا
وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف).

وضمن هذا التشكيك والتبديل، تشكل الفنتازيا بعض لوحات الجدارية داخل تقنية الرؤيا، أي تكسير علاقات الزمن والوجود.

(أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء
وكل شيء أبيض / البحر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء).

ذلك أن البياض الذي يغرق فيه درويش في الفضاء اللانهائي بين الوجود والعدم منذ البداية، هو الذي يمنحه خامة البراءة الأولى ليصّفي لغته الشعرية.
لكن هذه الفنتازيا التي توهم باقتلاع سوريالي للذاكرة والمكان، ويحيل فضاؤها إلى خارج المعنى الذي يحايث كينونة اللغة في تعبير الشاعر عن مأساته، لا تنطوي على محو للذاكرة، بل الذاكرة هنا تستعيد وجودها مع الكلام / اللغة من داخل ذلك الفضاء البعيد. هذه اللغة التي تجد تعبيرها في المأساة والحق الأعزل. حيث يضعنا محمود درويش أمام مفارقة عميقة عندما يتذكر لعنته فجأةً من ضفاف البياض والنسيان.

(سأصير يوما ً فكرة / لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب ولا كتاب
كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبة ٍ
لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد).

واليقين إذ ينحو إلى كينونة في الزمن / المستقبل، ينطوي في التعبير على لغة شفيفة توازي ذلك الحرمان الإنساني في الحاضر، وتشيع روحية مكتفية بالعزلة على هامشه، حيث التناسخ في مفرداتها داخل النص هو معنى البقاء، بعيداً عن الآن / الحاضر المحذوف، فالمكان هو اللغة، والوطن هو القصيدة.
وعلى الرغم من هذا اليقين الذي سيصير إليه الشاعر يوماً ما، تسترق اللغة الشعرية حنينها للمكان على هامش الحاضر بأسى يدس الحرمان في جمال الوصف، ليخلق الشاعر معناه من أعماق هاويته التي تعبر عن حرمانه في نشيد إنساني يورث أغاني الخلود لمن يأتون في زمن جديد. كأن اليقين في الرؤيا يتجدد في تناسخ جدلي مع أسطورة الأرض.

(خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية
وأورثها لمن يتساءلون لمن نغـِّـني؟
خضراء أكتبها على نثر السنابل…
كلما آخيت سنبلةً تعلمت البقاء من الفناء وضده
أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضرَّ ثانيةً
وفي موتي حياة).

ودرويش ينسخ الرؤيا في زمانه الخاص، ويستعير وجوده من اللغة، عبر الفنتازيا وتبديل المجاز في الحسي والمعنوي، وينحو إلى تجديد عبارات بعينها على مدار النص. أي أن الشاعر يشتغل في هذا النص على تدوير الجمل، وتكرار الألفاظ في كل مفصل حواري مع الموت ليستكمل حياته الناقصة بالامتلاء. فحاجته إلى الامتلاء الوجودي تعادل استعادته للغة التي لا تبشر بالملاحم والسلاح، بل تشتاق إلى يوميات الجسد ووظائفه الطينية. فهو يريد أن يحيا وأن يحلم، وأن يتأمل. فتحقق الوجود اليومي بالنسبة له هو مقاومة للموت، وضد النسيان.
وكما تعادل اللغة الوجود؛ تعادل الذاكرة الحق المعرض للنسيان. ثمة حق هناك في (شهادة الميلاد للصفصاف في حجر خريفي) وفي (العشب بين مفاتن الأنقاض).
يريد درويش العودة من ذلك البياض إلى كل ما ذكرناه آنفاً ولذلك يقول:

(فيا قلب يا قلب أرجع خطاي إليَّ لأمشي إلى دورة الماء وحدي
نسيت ذراعيَّ، ساقيَّ، والركبتين….
نسيت وظيفة عضوي الصغير
نسيت التنفس من رئتي َّ نسيت الكلام
أخاف على لغتي فاتركوا كل شيء على حاله
وأعيدوا الحياة إلى لغتي).

فاللغة التي هي علة الذاكرة والوجود، هي أيضاً مجاز الوطن المحذوف من الحاضر:

(لا أريد الرجوع إلى بلد بعد هذا الغياب الطويل….
أريد الرجوع، فقط، إلى لغتي في أقاصي الهديل).

وعلى الرغم من أن معجم محمود درويش يختبر الألفاظ بعناية، ويعيد تركيبها في عبارات تختزن مأساته، وتجرب احتمال معناها ضمن رؤية حاكمة للحرمان، إلا أن درويش استطاع في هذا النص أن يضخ حرمانه في سياق يمس المعنى الإنساني بأشد الصيغ خصوصية في تشفير ذلك الحرمان وتأويله:

(أطير وليس لي فلك أخير).
……………………….
(بحارة حولي ولا ميناء)

على هذا النحو يندمج سياق التأويل عند درويش مع مأساته في التيمة الإنسانية الكبرى، ويستصحب هذا التأويل في الموت والحياة كذلك. فهو حين يتذكر (لعنته) في ضفاف الأبدية ويستعيدها ليتحصن ضد الثنائيات التي لا تعرف احتمالاً؛ يختبر تأويل رؤيته ويلوذ بالمعاني بعيداً عن الثنائيات. ذلك أن تجريد الأشياء والأحداث عن صورها كما هي في العالم، وتأويلها ضمن مجاز في الرؤيا الإنسانية، ينزع عنها حمولات الذاكرة، ويدخلها في تكوين البياض والرؤيا لتتحول إلى دراما آسرة قائمة على التشكيك والاحتمال والمجاز:

(تنحلُّ الضمائر كلها “هو”، في “أنا”، في “أنت”….
وتنحل العناصر والمشاعر / لا أرى جسدي هناك ولا أحسُّ بعنفوان الموت
أو بحياتي الأولى / كأني لست منـِّي. من أنا
أأنا الفقيدُ أم الوليد).

فالشاعر يتساءل في النص ولادة مشككة بحياة أخرى مفقودة، لكنه في كلا الحالتين لا يريد هذا الشعور من انعدام الوزن. فهو يريد أن يولد مرةً أخرى لا كما جاء من الأزل في المرة الأولى، ولكن كما يريد أن يكون في المستقبل. بينما ولادة الحاضر هي ولادة اللغة التي تحقق وجوده الراهن بوجودها قبالة الصمت/الموت:

(لم أولد لأعرف أنني سأموت….
كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي / كأني حاضرٌ أبداً
كأني طائرٌ أبداً / كأني مذ عرفتك أدمنت لغتي هشاشتها
على عرباتك البيضاء).

ذلك حين يتماهى الصمتُ مع الموت تأتي اللغة لتعيد الحياة. فمعنى اللغة هنا (يظفر بوجوده المادي) بحسب (ميخائيل باختين).
إنه رهان الوجود في مرايا العدم؛ حيث يقين اللغة / الوجود في المستقبل.
ذلك المستقبل الذي يحالف الماضي في الزمن الدرويشي، لا يأتي من قوة السلاح الذي يوسع الكلمات للموتى، أو الجيوش التي تنشئ ممالك النسيان. لذلك تأتي خسارة الأرض من أثر النشيد الملحمي:

(الأرض عيد الخاسرين “ونحن منهم” نحن من أثر النشيد الملحمي
على المكان كريشة النسر العجوز خيامنا في الريح).

إن بقاء المكان تحت مفاتن الأنقاض أهم من السلاح والجيوش. إن البقاء هنا هو صيرورة الوجود المتناسخ إلى الأبد، رغم الخسارة.

(لم يمت أحد تماماً تلك أرواحٌ تغير شكلها ومقامها).

والشاعر هنا راءٍ مشغول بشواهد المكان بين الماضي والمستقبل بحسب رؤياه للوجود التي لا يكاد يراها أحد في الراهن. فمحمود درويش هنا يغني أناشيد الظل والمجاز ليستمع بالكاد إلى همس ما يقول، وليس نبياً يبشر بالقيامة.

(مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي
ولا أبشر بالقيامة.
لم أغير غير إيقاعي لأسمع نبض قلبي واضحاً…..
ها هنا كنا وكانت نخلتان. فالمنظر البحري والسور المدافع عن خسارتنا
يقول ما زلنا هنا حتى لو انفصل الزمان عن المكان).

على مدار النص يتأمل درويش مأزقه الوجودي في ضفاف الأبدية بتأويل يستند للغة والماضي والمستقبل، ويواجه الموت محتفلاً بمطلق الحياة، في حميميات إنسانية صغيرة كسلاح في وجه الموت، على الرغم من الرهبة التي تفضح خوفه من العدم.

(ولم تلد ولداً يجيئك ضارعاً: أبتي أحبك، وحدك المنفيّ يا ملك الملوك
ولا مديح لصولجانك….
هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين. مسلة المصريِّ، مقبرة الفراعنة النقوش على حجارة معبد ٍ
هزمتك وانتصرت وأفْلَتَ من كمائنك الخلود).

تلك الأغاني التي هزمت الموت في آثار الأوائل، هي نفسها أصداء الأناشيد التي يرددها(الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في خصوبتها) والتي تنسخ الوجود من العدم، وتطعن السيف بوردة؛ لذلك يحاصرها الغاصب والسَّجان خلف أسوار المدن القديمة حتى لا تنفذ إليها.
ربما أفلت درويش من الأبدية ليسترجع هامش الوجود في حياة تنسخ إيقاعها بلغة الحق الأعزل وتنهض بكاملها في مقاومة المحو والعدم دون ضجيج. وبنشيد ينفذ هسيسه إلى الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد)؛ نشيد يحاصر به عدواً يريد أن يحيا على (إيقاع أمريكا وحائط أورشليم).
إنه النشيد الذي يربك آلة الفناء. فالموت الذي خاض درويش ضفافه، أحس فيه معنى ما، من معاني حياته الماضية (وكأنني قد مت قبل الآن أعرف هذه الرؤيا).
وقبالة الموت يوازي درويش، موت الحياة المجازية التي عاشها سابقاً، فهو وحده أحس بالغربة والوحدة والبعد (وهي مفردات مكثفة في النص بتصاريف عدَّة).
أحس درويش بكل ذلك، لا ليعبر عن يأسه، ولكن ليعبر عن الرؤيا التي تحكم وجوده بين الماضي والمستقبل. فالحاضر الذي يمتحن وجوده، يكسر نشيد النأي الأزلي بالثنائيات المدمرة. لذلك يرسم درويش، على مدار النص، زمانه الأبيض ووجوده الحق عند حافتي الأزل والأبد، في المطلق، أو الماضي والمستقبل في التاريخ؛ ليهرب من ثنائيات الزمن الراهن وأضداده، أي ليحقق الرؤيا في الوجود الذي يراه لوحده من بعيد، فمدار الزمن في النص ينوس بين الماضي والمستقبل.

(جئت قبل وجئت بعد) أو ( كنت أو سأكون)
(خذ غدي عني وهات الأمس)
(لا أحد هنالك في انتظاري جئت قبل وجئت بعد /
فلم أجد أحداً يصدق ما أرى
أنا من رأى وأنا البعيد أنا البعيد).

هكذا رأى درويش ما وراء المنظور لينفذ من التاريخ إلى المطلق، ومن الحاضر إلى المستقبل، ومن الواقع إلى الحقيقة؛ رأى كل ذلك بلغته التي ستبقى شاهداً على وجوده الحقيقي:

(وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي…
الواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد).

وإذ يتردد الزمن الدرويشي في الجدارية بين الماضي والمستقبل على ذلك النحو من الاستعادة والتدوير والتحقق؛ فهو أيضاً الشاهد الوحيد على ما يراه الشاعر دون الآخرين. فعندما ذكر درويش زمنه الراهن قال (الوقت صفر)، (الزمن المدور) بينما يتجدد الماضي بحسبانه رؤيا مستقبلية إزاء الوجود الحق. فالماضي هو المستقبل والعكس صحيح في زمن الجدارية أو الزمن الدرويشي.
ولهذا يتجه درويش للماضي بنوستالجيا تعكس وجوده في المستقبل الكبير ليقينه بذلك. وينعي درويش من يندبون الماضي في محنة الحاضر، ليتأمل ما هو أجدر من البكاء على الماضي، أي ليتأمل حقيقته في الماضي كما هي في المستقبل أيضاًً:

(تركت الباب مفتوحاً لأندلس الغنائيين /
واخترت الوقوف على سياج اللوز والرمان /
أنفض عن عباءة جديَ العالي خيوط العنكبوت /
وكان جيش أجنبي يعبر الطرق القديمة ذاتها /
ويقيس أبعاد الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها).

فحين يقيس العدو زمانه بالسلاح، لا بد أن يكون وجوده عابراً في نقطة ما، في (الوقت الصفر) بين الماضي والمستقبل، ما دام يحمي ذلك الزمن بآلة الحرب. ذلك أن النص هنا يماهي بين العدو والموت تماماً. يستطيع الموت أن يقضي على الفرد، ولكن لا يستطيع أن يقضي على شعب يتسلسل في الوجود إلى يوم القيامة. كما لو كان الموت الذي هزمته الفنون هو نفس العدو الذي يخاطبه درويش:

(قلت للسجان عند الشاطئ الغربي
ــ هل أنت ابن سجاني القديم؟
ــ نعم
ــ فأين أبوك
قال أبي توفي من سنين /
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة
ثم أورثني مهمته ومهنته /
وأوصاني بأن أحمي المدينة من نشيدك).

وحين تكون القصيدة وطناً يعجز السجان عن حماية الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد) من النشيد. ولو جرب آلة الفناء، و لو قتل المُغنـِّي، لأن ذلك ليس من اختصاصه تماماً. يقول درويش مخاطباً الموت/ العدو:

(ألديك وقت لاختبار قصيدتي/ لا ليس هذا الشأن شأنك
أنت مسؤولٌ عن الطيني في البشري /
لا عن قوله أو فعله).

بهذه الرؤية يؤكد درويش يقينه الوجودي في أمسه كما في غده، فهذا اليقين هو الذي يحرِّرُه من الراهن، أي من الزمن المدور إلى الماضي والمستقبل أو العكس.

(قد يكون “الآن” أبعد / قد يكون الأمس أقرب/ والغد الماضي
ولكني أشـَّـدُ “الآن” من يده ليعبر قربي التاريخ /
لا الزمن المدور مثل فوضى الماعز الجبلي).

فهذا الحاضر الراهن، إنما هو عارض، وليس للشاعر منه شيء.
أما الذي له فهو الماضي والمستقبل:

(ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي غديَ البعيدُ،
وعودة الروح الشريدِ
كأنَّ شيئاً لم يــَكنُ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيفٌ في ذراع الحاضر العبثي….
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أبطاله….
يلقي عليهم نظرةٌ ويمرُ….)

ورغم هذا الامتلاء بيقين الماضي والمستقبل في زمن درويش، إلا أن درويش حذف نفسه أيضاً في نهاية النص من الحاضر العبثي حين ختم الجدارية:
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
لي.
أَما أَنا – وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي …

إنه امتلاك المجاز واليقين في عين الوقت الذي ينوس بين الماضي والمستقبل (لي أمسي ولي غدي البعيد).
وإذ ينفي درويش تحقق الكينونة في الحاضر العبثي بنفيه امتلاك ذاته المتحققة فإن ذلك يستدعي بالضرورة الرحيل في الوجود والإقامة في الغياب؛ إذ الامتلاء بأسباب الرحيل هو عين العدم في عين الوجود. إن درويش هنا يختبر علاقة مركبة للمجاز والطبيعة والذات بطريقة لا تخلو من دلاله مزدوجة، ولكنها في الوقت نفسه تضعنا باستمرار أمام سؤال المعنى حيال تلك الحال الفريدة التي يكتب درويش من خلالها الشعر. فدرويش الذي قال (وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديَّتي) ربما كان ـ إلى جانب المتنبي ـ أحد شاعرين في العربية امتلكا القدرة على تحويل اللغة إلى طاقة لامعة في الكلمات، وهي قدرة عبقرية تمنح الشعر انزياحاً حراً متجاوزاً لموضوعاته ومندمجاً في الحياة بوصفها فضاءً شعرياً يخترق الخاص والعام والذاتي والموضوعي والتجريد والتجسيد؛ فتغيب الأغراض ويبقى الشعر ساطعاً يمسُّ الكلمات والأشياء فيحوِّلها إلى كائنات شعرية منفكة عن حيثياتها في اللغة والعالم. وإزاء قدرة تعبيرية نادرة كهذه لا تنفك قيمة المعنى عن الإبداع. ذلك أن درويش الذي كتب هذا النص بمجاز قارب التخوم الصافية للشعر، وبهذه الفرادة الشعرية التي جعلت من مأساته جرحاً للضمير الإنساني في العالم، كان لا بدَّ أن يستفز تناقضاته القصوى ليعبر عن موقعه المتحقق في الماضي والمستقبل والمحذوف من الحاضر في سياق المعنى المتصل بسؤال الحقيقة والإبداع حيال هوية الأنا. فهو هنا في هذا النص لا يكتب مجازاً محضاً، ولا يحذف المعنى، بل يجد نفسه كينونة منشطرة بضغط التاريخ؛ كينونة ينعكس عليها الزمان منفكَّاً عن سياقه المنسجم مع تلك الأنا في الماضي والمستقبل، ليصدمها بفجوة الحاضر العبثي؛ حاضر الاحتلال والاقتلاع. وتعبيراً عن هذه الحالة يتمثل درويش مأزقه الوجودي كشاعر كبير معني بالإفصاح عن هويته المتصلة بوجوده في التاريخ؛ تلك الهوية التي لا وجود لها في الواقع؛ إذ أن وجودها في هذا الحاضر هو الوجه الآخر للعدم. إنها جدلية الوجود والعدم التي حين تنعكس على الوجود تحذف الذات منه فلا تبقي إلا طيفاً متناسخاً في سماء المكان لأن وجودها موجود بالقوة وغائب بالفعل.
إن النفي المكرر في اللازمة: (أنا لست لي) يأتي تفسيراً لتلك الغربة والوحدة والبعد عن الزمن الحاضر في النص. ولهذا حين قال درويش:
(واسمي – وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت – لي)
كان يشير إلى خطأ المكان بوصفه انعكاساً للعدم الذي سيأتي منه على التابوت؛ فهو مكان ليس مكانه؛ إذ لا يقع فيه درويش على نفسه الغريبة؛ فالمكان هنا انعكاس للخطيئة (المكان خطيئتي) لذلك ينعكس خطأ المكان خطأً في نطق الاسم لتجديد المعنى في دلالته المتصلة بالغربة والوحدة والبعد، في الحاضر، وحتى بعد الموت.


محمد جميل أحمد
* شاعر وناقد من السودان

جي كي رولينغ تعلن عن سلسلة روايات الجريمة "غالبريث"



تحمل روايات غالبريث الجديدة شخصية المحقق العسكري السابق في الشرطة كورموران سترايك لتحل مكان "هاري بوتر"


فايسبوك"جي كي رولينغ"



أعلنت المؤلفة السينمائية جي كي رولينغ خلال فعاليات مهرجان هاروغيت لكتابة الروايات السينمائية، أنها بدأت بكتابة روايات جريمة تحت الاسم المستعار روبرت غالبريث، والتي تتوقع أن تفوق سلسلة الروايات المعروفة "هاري بوتر". وقالت رولينغ إنها شرعت بكتابات الروايات التي ستنتهي بنهايات مفتوحة. وجاءت تصريحاتها هذه بعد أن نشرت الرواية القانية التي جاءت تحت اسم غالبريث في حزيران/يونيو الماضي، معلنة أنها أنهت النصف الأول من الرواية الثالثة التي تحمل نفس الاسم.

وتحمل روايات غالبريث الجديدة شخصية المحقق العسكري السابق في الشرطة كورموران سترايك، والذي عمل سابقا في أحد الفروع الخاصة للتحقيقات، والتي ستحل مكان روايات هاري بوتر التي انتهت من كتابتها. ووعدت الجمهور خلال حديثها بأن يتخلل الرواية القادمة اختلاف تام والكشف عن معلومات تركتها غامضة في الروايات السابقة.

وأكّدت رولينغ انّ عدد الروايات سيكون أكثر من 7 كما هو الحال في عدد روايات هاري بوتر، مشيرة إلى أنّ النهايات المفتوحة في الروايات من شأنه أن يساعد بأن تكون عدد الروايات أكثر من 7. وأشارت إلى أنّ ما يختلف في مجموعة روايات غالبريث عن هاري بوتر أنها تحمل قصص منفصلة ومختلفة و"يمكن تكليف المحقق بقضايا بشكل دائم طالما بقي على قيد الحياة".

وعبّرت رولينغ عن حبها لكتابة روايات الجريمة، مضيفة "لطالما أحببت روايات الجريمة وأقرأ الكثير منها، وأنا استمتع بروايات العصر الذهبي التي اعتبرت الأصل في روايات الجريمة، وما تحمله رواياتي هو عروض لقضايا جرائم بشكل معاصر عما كتب في العصر الذهبي، كما وتتماشى الشخصيات والبطل والأحداث كذلك مع النمط المعاصر".

بمساهمة: وكالات عالمية

اليوم .."الصحفيين" تستضيف حفل إطلاق أحدث إصدارات الروائى الراحل "محمد ناجى"



تستضيف نقابة الصحفيين في السادسة من مساء اليوم الخميس حفل إطلاق أحدث إصدارات الروائى الراحل محمد ناجي "قيس ونيللي" الصادرة عن مركز الأهرام للنشر.

ويشارك في الاحتفالية حشد من كبار الأدباء والنقاد والمثقفين وأسرة وأصدقاء الراحل الكبير، وتنظم الاحتفالية بقاعة المؤتمرات بالدور الرابع، ويصاحبها معرض لأهم إصدارات الراحل الكبير بأسعار خاصة.

ورحل الروائي والصحفي محمد ناجي عن عالمنا بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 68 عاماً بأحد مستشفيات باريس، والذي كان قد أجري به عملية لزراعة الكبد.

وولد ناجي في مدينة سمنود بمحافظة الغربية بدلتا مصر عام 1946 وكتب الشعر ثم تفرغ لكتابة الرواية منذ بداية التسعينيات وكانت باكورة رواياته (خافية قمر) التي اختارها كثير من النقاد والأدباء المصريين كأفضل رواية تصدر في عام 1994.

وتوالت روايات الكاتب الراحل ومنها (مقامات عربية) و(لحن الصباح) و(العايقة بنت الزين) و(رجل أبله.. امرأة تافهة) و(الأفندي) ونشر روايته (قيس ونيللي) مسلسلة في صحيفة مصرية، حيث تعاقد عليها ناجي قبيل عودته إلى باريس لاستكمال العلاج.

وكان الراحل قد تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم صحافة عام 1969، والتحق فور تخرجه للعمل صحفياً بوكالة أنباء الشرق الأوسط ثم انتقل للعمل بصحيفة الاتحاد الإماراتية وأسس صحيفة "اليوم" البحرينية. ثم عاد إلي القاهرة أوائل التسعينيات ليعمل مديراً لتحرير صحيفة "العالم اليوم" ثم مشرفاً علي الصفحة الثقافية بوكالة رويترز.

وحصل ناجي على "جائزة التميز" من اتحاد كتاب مصر عام 2009 كما نال "جائزة التفوق" في مصر عام 2013 عن مجمل أعماله الروائية.

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف يوزع 278 مليون نسخة من مختلف إصدارات المجمع







قدم مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة خلال شهر محرم الماضي 1436هـ, ما مجموعه 639ر389 نسخة من القرآن الكريم بمختلف الأحجام، والأجزاء، والتسجيلات، والترجمات، والكتب الإسلامية، لمجموعة من الجهات الحكومية والأهلية والخيرية، إضافة إلى عدد من الهيئات الخيرية وسفارات وقنصليات المملكة، في الخارج .

وأوضح تقرير صادر من المجمع عن توزيعاته خلال الشهر الماضي, أنه تم توزيع 243ر288 نسخة من المصحف الشريف من مختلف الأحجام، و596ر65 نسخة من أجزاء القرآن الكريم، و 958ر9 نسخة من التسجيلات الصوتية لقراءات وتلاوات بعض المقرئين، و 555ر10 نسخة من ترجمات معاني القرآن الكريم بمختلف اللغات الأجنبية، و 287ر75 نسخة من الكتب الدينية .

و ذكر التقرير أن إجمالي ما وزعه المجمع منذ بداية توزيعه لإصداراته في الـ 23 من شهر جمادى الأولى من عام 1405هـ، وحتى نهاية شهر محرم 1436هـ، وصل إلى 137ر784ر278 نسخة من مختلف الإصدارات .